صباحٌ شتائي
خرجت صباحًا من منزلي، والهواء البارد يلفح الوجوه، فيُقشرها، وربّما يُعريها بشكلٍ قاسٍ، مُستبيحًا كُلّ أحلام الدفء والأمان، جميع المارين يحاولون أن يُسرعوا وأيديهم داخل جيوبهم لا يهمّون بإخراجها إلا لأمرٍ طارئٍ أو حدثٍ جلل، وهُناك عجوزٌ مُبتسمة لا أعرف ما الذي أخرجها في هذا الوقت الباكر، لتُملأ خدودها بدمعاتٍ كاللؤلؤ تهرُ على وجنتيها دون إذنٍ منها، وابتسامة دافئة يبدو أنّها نُقشت على مُحياها مذ كانت صبية، لم تهرم بعدُ تلك الابتسامة، رُغم شيخوخة كُلّ الملامح، لم أعلم إن كانت حقيقية أم أنّها تُغطي حرائق روحها.
تابعتُ طريقي أُحاول أن آخذ الخطوتين بخطوة، ليأتيني الهواء، ويُعيد كلّ خمس خطواتٍ من خطواتي خطوة، هكذا هو كانون، في بلدٍ يعرف معنى الشتاء، ولم تحظَ بعدُ طُرقاته بالاغتسال بمطرٍ يُخفف عُقم الصقيع.
رائحة الخوف
قبل نهاية مُفترقٍ للدخول في طريقٍ رئيسية، بدأ صوتٌ يتعالى من وراء ظهري، نظرت نظرةً خاطفة، علّي أُحدد مصدر الصوت، وإذ بمراهقٍ في الخامسة عشرة، يركض مُسرعًا، والعرقُ قد بللّ جبينهُ العالي، وصوتُ لُهاثه ملأ الزقاق العريض، يُحاولُ التواري عن العيون، والصوتُ ما زال خلفي يقوى بلغةٍ غير مفهمومة، حاول أحد المارة أن يمسك المراهق، ولكنّه سُرعان ما أعتقه، وتركهُ حرًا، وصل الشاب قُربي، لم ألمح إلاّ توهان عينيه، ورجفان قلبه الذي أحسسته رُغم كلّ الألبسة التي أخفى حقيقته داخلها، وشممتُ رائحة الخوف ممزوجة بأقدامه المترامية طول الشارع، تُحاول كلّ قدم أن تدخل بسباقٍ مع الأخرى، لتحظيا بالأمان، وعيناي ما زالت تتبعانهُ إلى أن غادرهما إلى أحدِ الشوارع الفرعية، يلوذ بدهاليزها، وأشجارها المكتظة، ليضيع كسرابٍ لم أرهُ أو أسمع أنفاسه المتقطعة من قبل.
وما زال الآخر يُلاحقهُ دون جدوى فقد كان ماهرًا بالفرار، والركض فوق الأسوار.
بصراحة لم أعرِف مع من يجب أن أتعاطف وكأن بوصلتي قد انحرفت، ر أيتُ خوفه، وقلقه، وهروبه، ولم أعرف ما فعل.
لم أرَ من الآخر إلا حرصه على الإمساك به ومعاقبته وربّما سجنه.
لم أستطع الحُكم ربّما الهارب سارق، وربّما مجرم، ربّما متلصص، وقاتل.
لكني للحظة تعاطفت معه، تعاطفت مع ضعفه وخوفه وقلة حيلته، كنتُ مؤمنة بأنَّ ما رأيتُه بأم عيني أصدق مما يمكن تنبؤه.
ربّما لو كان الملاحِق قريبًا مني وسمعت أنين صوته عن قرب، ولهفته، لاختلفت وجهة نظري.
تعاطف
ربّما، وربّما لا. فكيف لي أن أتعاطف مع قصةٍ لا تهمني بالأصل، وأنا الذاهبة إلى عملي لأنفث هموم بلدي التي ما زالت البشرية تصمُّ آذانها عن صوت هدير الطائرات فيها، وما تفعله من خوفٍ ورُعبٍ في قلوب صغارنا، ما زالت تُغمضُ أعينها عن صور الموتٍ والأشلاءِ الممتزجة بأرغفة الخبز، وأحجار الأبنية المتهاوية فوق رؤوس الصغار والكبار، فوق رؤوس من كان يُنادي بالثورة، أو كان لا يملك لنفسه مهربًا من جحيم القصفِ والقتل وإسالة الدماء.
ويبقى من يُسمي نفسه إنسانيًا، ويُطلق شعارات المحبة للاجئين، واستضافاتهم بكامل الأخلاق المصطنعة، وممارسة الدور الإعلامي الرائع في استقبالهم، من جهة ديارهم، وإرسال ما يستطيعون إرساله من طائرات حاقدة، مُدمرة لكلّ أحلام الصغار بوطنٍ يتنفسون فيه الحرية، بدعوى محاربةِ الإرهاب، وما زالت قذائفهم وصواريخهم تطالُ أطفالنا وشيوخنا ونساءنا، تستهدف منازلنا التي لم تعد آمنة، ولا حتى شجيرات الزيتون التي أحرقوها، لم تعد آمنة لرائحة الياسمين التي نشروا بدلًا منها رائحة حقدهم وكُرههم، واستعارة أقنعتهم التي يلبسونها حسب الحاجة إن كان في بلدي أم بلادهم.
رُغم كلّ الصيحات، وكلّ الصّور، وكلّ الفيديوهات التي وصلت لذلك العالم الذي ما زال يصفُ نفسه بالإنساني، لم يستطع بعد التمييز بين الظالم والمظلوم، بين السفاح والمقتول، بين السجين والسجان.
هل ماتت الإنسانية؟ أم إنّها أخذت غفوة طويلة؟
ثورة
ربّما لو تدخل أحد من المارة إيجابيًا أو سلبيًا، لما استطاع ذلك الهارب الهروب، وعندها كانت اختلفت النتائج، وكما قال: (فيكتور هيجو) إذا أعقت جري الماء في النهر، النتيجة الفيضان، وإذا أعقت الطريق أمام المستقبل فالنتيجة هي الثورة.
رُبّما ما زال يلزمنا ثورات وثورات تكشف وجوه السياسة العالمية التي تختفي وراء وجه الإنسانية، وما زالت تعمل وراء مصالحها الخاصة، مُنتشية بدماءِ الضُعفاء والفقراء والمساكين, في بلاد العالم الثالث الذي أرادوه ثالثًا، وعندما انتفض ليأخذ موقعه الحقيقي حاربوه بالقتل والتشريد والنفي والاستغلال.
لا بدّ أن نُغمض أعيننا عن اللجوء إلى نصرهم، كما أغمضوها عنا، ونلجأ إلى تغيير فكرتنا عن انتظار الآخرين للتعاطف مع قضايانا، علَّنا نتولى شؤون حياتنا بدون لمسات حاقدة، أو تدخلات سافرة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الطريق