-1-
يومٌ واحدٌ في العام, يومٌ ينتظره الجميع.
حينما تفتح المحلات أبوابها تُفاجأ العتبات بحملٍ لم تعتده, عشرات أو مئات الأحمال تجري حاملة وزنها ضاغطة على الأرض بقوة في محاولة لكسب مكانٍ أفضل, إنها الجمعة السوداء.
تأتي الجمعة السوداء بعد يوم عيد الشكر بأميركا مباشرة, تقوم المحلات بعمل تخفيضات تصل إلى مبالغ خيالية، وتفتح أبوابها أحيانًا من الفجر, فيكتظ الجميع في طوابير هائلة، تغلب طوابير الخبز عندنا, جاء وصف هذه الجمعة بالسواد من قِبَلِ شرطة ولاية فيلاديلفيا بسبب الفوضى والمشاجرات والازدحامات التي يسببها هذا اليوم.
شاهد الفيديو لتتخيل الصورة بشكلٍ أفضل
-2-
أُقيمت منذ أيامٍ قلائل مسابقة لاختيار ممثلة مصر في مسابقة ملكة جمال العرب, تقف الفتيات على المسرح عارضين أنفسهن أمام لجنة تحكيم، لتختار أفضلهم لتكون خير ممثلٍ لمصر في المسابقة, كالعادة يقفون بفساتين تكشف معظم أجسادهن -كأن الجمال والعري مترادفان- لتنلن شرف الفوز وشرف عرض أنفسهن مرة أخرى أمام فتياتٍ عربياتٍ أُخَر, لتنال واحدة في النهاية شرف أن تصبح ملكة جمال العرب في المسابقة التي ستتم هذا الشهر في شرم الشيخ.
حين سؤالهن عن فوزهن يرددن بأنهن سيدافعون عن حقوق المرأة، وسيشجعون السياحة، وأنهن سيحاولن أن يكنّ على مستوى المسئولية, مسئولية كبيرة بالطبع.
-3-
حين قراءة الأخبار تجد العشرات يموتون هنا وهناك يوميًا, أرقامٌ هنا وهناك, نقيس حجم معاناة البلدان بعدد من يموتون بها بسبب الإرهاب أو الظلم السياسي, هنا مات مائة شخص وهناك مات خمسة, من الواضح أن البلد ذات الخمس ضحايا جميلة للغاية, فلنهاجر إلى الجنة!
-4-
هناك فارقٌ بين الإنسان والشيء, الإنسان روحٌ وجسد والشيء جسدٌ فقط , وهذا فارقٌ جوهري.
في البداية أصبحنا نقدس الشيء, نقدس الممتلكات, الأموال, السلطة, السطوة والنفوذ, والحياة الفارهة. أصبحنا نقدس كل ما يمكن امتلاكه, صار الامتلاك غاية لا محض وسيلة, وتكديس الأشياء أسمى الأماني.
أصبح الشكل الخارجي والمظاهر الفارهة هما الفيصل في تحديد الجمال, أصبحت الفتيات تقفن عارضاتٍ أنفسهن ومتكلفاتٍ في عرض أنوثتهن ليقول عنهن الجميع أنهن الأجمل, أصبحن كسيارة غالية أو هاتف محمول بكاميرا متطورة على أقصى تقدير.
-5-
طبيعي أن يتقاتل الناس على موسم الخصومات لدرجة ضربهم بعضهم البعض, لقد سيطرت الأشياء, لم يعد غزو الروبوتات وسيطرتها على البشر خطرًا ذا قيمة فالأشياء قد حكمت العالم بالفعل.
راجع ممتلكاتك ستجد أنك لا تحتاج معظمها, بل هي تشكل ضغطًا نفسيًا عليك لا أكثر, ضغطًا يجعلك تسعى لامتلاكها وضغطًا يجعلك تخاف فقدانها, والمضحك أنك لا تحتاجها أصلًا وأنت تعلم ذلك.
ثم انتقلنا لمرحلة أخرى, وهي “تشييء” الإنسان, أنت جميلة ذات جسد رائع, تضعين مساحيق تجميلٍ رائعة وترتدين مجوهرات تجعلك تتألقين كالنجوم, تعالي, ستتنافسين مع فتياتٍ مثلك.
في البداية سنرى الأشهى جسدًا, ثم الأكثر قدرة على إظهار الأنوثة, ثم الأكثر بهرجة, ثم سنرى إن كنت مثقفة أم لا, ثم تصبحين ملكة جمال, ثم تشتهرين وتصيرين نجمة مجتمع, وستتربح شركات التجميل والمجوهرات ببضعة ملايين وتربحين أنت الشهرة وبضعة مئات من الآلاف, كل ما تحتاجينه هو الوقوف ك”مانيكان” في فاترينه, أمرٌ بسيط للغاية.
-6-
يقول الحلاج:
يا نسيمَ الريحِ قولي للرَّشَـا * لم يَزِدْني الوِرْدُ إلا عَطَشَـا
إذا طبقنا معني الجملة بغض النظر عن مقصد الحلاج, سنجد أن الوِرْدُ – الماءُ الذى يُورَدُ – ما زادنا إلا عطشًا, الامتلاك, التقدم التكنولوجي, الدنيا بكل مباهجها, ما زادتنا إلا عطشًا, وبؤسًا.
الامتلاك يستحيل سببًا للهم، والافتتان بمباهج الدنيا لا يزيدنا سعادة, فأتذكر قولًا قرأته في رواية محال للكاتب يوسف زيدان: “أريد ألا أريد, لا أمتلئ ولا أستزيد”.
-7-
في أحد أحاديث مؤتمر Tedx وقف صديقان يتحدثان عن تجربتهما الغنية للغاية، تحدث أحدهم ويُدعى Ryan Nicodemus عن أنه كان يظن أن الغِنَى هو راتب بأرقامٍ ضخمة, حتى أصبح في النهاية يؤمن أن الغنى هو امتلاك بعض الأشياء التي يحتاجها حقًا.
استمعت منبهرًا معجبًا. تحدثا عن سيطرة الأشياء على حياتهما وكيف كانا بائسين رغم كل ما امتلكاه من مالٍ ورفاهية, وكيف صارا الآن بعد تخلصهما من أعباءٍ ليست ضرورية.
حديثٌ يجب أن يستمع له العالم بأسره، جمع Ryan أشياءه في صناديق ثم بدأ في إفراغها مما يحتاجه فقط, فوجد أن 80% مما كان يمتلكه بقي في الصناديق, و20% فقط كان يحتاجه حقًا.
-8-
يحاول الناس ملأ فراغ حياتهم بالأشياء, رغم أن بالحياة أمورٌ أكثر أهمية, هذه ليست دعوة للتقشف والعيش بالكهوف, ولكنها دعوة لحياة أقل ضغطًا, ذات معنى, وأكثر سعادة.
دعوة لخفض قيمة الأشياء ومعرفة ما هو مهمٌ حقًا, دعوة لإنهاء “تشييء” الإنسان, لعله يدرك قيمته يومًا ويجد بعض الراحة والسعادة, فالأشياء لا تقوم بأيٍ من هذا, فما يزيدنا الوِردُ إلا عطشًا.
حديث الصديقين
ملحوظة: الفيديو مهمٌ للغاية.
-9-
أما عن الجمال الذي تم تزييفه وطلاء وجهه بالمساحيق, فأتمنى في يومٍ من الأيام أن أرى رونق الكلمة يعود لها يومًا, ليرى الناس جمالًا بدون مساحيق, يرتشفون منه رشفات تروي الظمأ وتهدئ النفوس وتسمو بالأرواح.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست