يومًا ما كانت حركة فتح مثالًا للنضال من أجل قضية التحرر الوطني، وكان قادتها وعلى رأسهم ياسر عرفات مناضلين ثوريين شرفاء. ثم مرت الأيام والأحداث، ولعب الأعداء لعبتهم ونصبوا كمائنهم، ولوّحوا بذهبهم وسيوفهم، فانقلب الحال، وأصبحت الحركة مثالًا لحركات التنازل والخيانة، وأصبح قادتها أمثلة تضرب للعمالة في أفضح صورها.

ما الذي حدث لحركة فتح؟

الذي حدث أن الأعداء جرّوها تحت الضغط والترغيب والإغواء إلى مائدة التفاوض، وهي مائدة ملغومة، فعليها مما يسيل اللّعاب صنوفٌ كثيرة، وعليها خمر يُسكر من يقربه، فيتبدل حاله من حال لحال، ويصبح شيئًا آخر، وتنقطع صلته بكل تاريخه، ويبدأ تاريخًا مغايرًا على النقيض تمامًا.

وصل الحال بقادة فتح إلى أن يصرّح أحدهم بأن للإسرائيليين حقًا في حائط البراق، ووصل الحال من قبل ذلك ومن بعده إلى أن تغدو أجهزة السلطة الفلسطينية التابعة لفتح أداة في يد العدو الإسرائيلي لقمع حركات الجهاد والنضال الفلسطيني. وبلغ التعاون وتبادل المعلومات وتوزيع الأدوار أقصى حده بين أجهزة فتح الأمنية وأجهزة العدو الإسرائيلي الأمنية والمخابراتية. يومًا ما كانت فتح شيئًا، وقد أصبحت اليوم شيئًا آخر.

حماس حركة فلسطينية إسلامية مجاهدة مقاومة، قدمت أعظم قادتها شهداء، ولن تجد دليلًا أقوى على استقامة حركة إسلامية وإخلاصها في حمل قضيتها أكثر من أن تقدم صفوة قيادتها شهداء لذلك. لكن في نهاية الأمر، تبقى حماس حركة بشرية، يسري عليها ما يسري على غيرها من الحركات البشرية، ولا يؤمن عليها الحيد عن المنطلقات والأسس، ولا تؤمن على قياداتها الفتنة ولا الزيغ.

اضطرت حماس إلى أن تدخل حلبة السياسة والحكم تحت ضغط فساد فتح وأجهزة الحكم فيها. ولقد سألت يومًا الدكتور عطا الله أبو السبح وزير الثقافة في حكومة حماس الأولى، سألته عن القرار بإقدامهم على الحكم، وهل كان هذا القرار مدروسًا أم كان قرارًا متسرعًا، فرد عليّ قائلًا: لقد اضطررنا مرغمين إلى ذلك، ولك أن تعرف أن الفساد كان قد وصل بأجهزة السلطة إلى حد توزيع الأفلام الإباحية على الشباب في الطرقات، تحت سمع وبصر هذه الأجهزة، وربما برعايتها وتخطيطها.

اضطرت حماس إلى الدخول لحلبة الحكم والصراع السياسي من أجل حماية بندقيتها وبندقية النضال الفلسطيني كله من مؤامرات ومخططات أجهزة فلسطينية حاكمة أصبحت مجرد دمى في يد العدو الإسرائيلي، وكذلك لحماية الأمة الفلسطينية كلها من الفساد الأخلاقي والعقائدي والارتماء في أحضان العدو مستسلمين راغبين وراهبين.

استلمت حماس الحكم، ثم حدثت محاولة الانقلاب على حكومتها من قبل عصابات فتحاوية بقيادة دحلان، وهو ما اضطر حماس إلى استخدام السلاح في ردعهم والقضاء عليهم وتطهير غزة منهم. ثم الانفراد بحكم غزة سياسيًا وإداريًا وعسكريًا طوال هذه السنوات العشر.

لكن العدو الإسرائيلي ومعه خونة العرب وصهاينتهم لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل بدؤوا مخططهم الجديد في تركيع حماس من خلال الحصار الشديد على غزة، وكذلك الحرب عليها بين الحين والآخر.
شنت إسرائيل في هذه الفترة التي انفردت فيها حماس بحكم غزة ثلاث حروب على القطاع أعوام 2008 و2012 و2014.

واشتد الحصار مع ذلك بواسطة مصر وكذلك أجهزة السلطة في الضفة، إلى حد أن مات بعض المرضى في غزة بعدما حيل بينهم وبين الخروج للعلاج.

هنا وجدت حماس نفسها مضطرة ومرغمة على قبول التفاوض مع فتح لإنهاء أزمة الانقسام وإعادة الحكم في غزة لفتح وأجهزتها.

واستمر التفاوض أعوامًا طويلة، ومن إخفاق لإخفاق، حتى حدث مؤخرًا هذا الاتفاق برعاية مصرية، وعندما نقول برعاية مصرية فنحن نعني قطعًا الرعاية الإسرائيلية والأمريكية من ورائها، فمصر لا تخرج بدورها عن الإطار الإسرائيلي الأمريكي منذ عقود.

من ناحية يبدو موقف حماس مناورة سياسية ذكية، وبراجماتية سياسية تنظر للمتاح وللمستحيل، وتحسب حساباتها جيدًا، فتؤجل أي مواجهات مباشرة قوية من أجل أن تستعد لها، لتكون أكثر قوة وأكثر قدرة على الرد.
ولا ننسى في ذلك أن كثيرًا من التسريبات والآراء كانت تؤكد على أن حربًا إقليمية كبيرة قادمة على غزة لمحو حماس من الوجود تمامًا، ولتهيئة الجو لإتمام صفقة القرن التي يُرتَّب لها في الخفاء للإجهاز تمامًا على القضية الفلسطينية وتقديم الوطن البديل للفلسطينيين في أرض سيناء.

ومن ناحية أخرى تبدو حماس قد خطت خطوتها الأولى في الطريق الذي سارت فيه فتح، فقد أعلنت وثيقتها الثانية التي تخلت فيها عن ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين كفرع لها في فلسطين، وقبلت فيها بحل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية على حدود 1967.

ومن قبل ذلك كانت قد أسكنت بندقيتها وما عادت تحركها إلا دفاعًا أمام الحروب الإسرائيلية على غزة، في حين أنها قبل ذلك ما كانت تسكن يومًا عن المقاومة والجهاد والعمليات هنا وهناك. وها هي توقّع اتفاقيات لتسلم السلطة في غزة مرة أخرى للخونة والعملاء والصهاينة العرب.

حماس قدمت تنازلات، ولا ريب في ذلك، لكننا لا ندري إلى الآن حجم هذه التنازلات. وأغلب ظننا أن حماس لن تتنازل عن بندقيتها ولا عن نضالها وجهادها، وأنها كانت مرغمة على قبول هذه الاتفاقيات والتنازلات فيها. لكنها تناور وتخطط للحفاظ على استراتيجيتها ومنطلقاتها وأسسها.

ولكن يبقى التخوف، فلا تؤمن الفتنة على حماس ولا على قياداتها، وقد وضعت قدمها على أول طريق التنازل والتفريط، وليس مستحيلًا أن تصبح حماس فتحًا أخرى، إلا أن يعصمها الله، وتعصمها روحها الإسلامية المجاهدة، ويعصمها ميراثها، ودماء قادتها وشهدائها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد