تركت مجموعة من الأعمال الفنية بصمة لا تنكر في ذاكرة الناس، وباتت جسر عبور مزيَّنٍ بعبقِ الحنين إلى ماضٍ بعيد، وما زالت القنوات التلفزيونية تهتم بإعادة عرضها؛ من أجل تعريف الجيل الجديد بإبداعات الدراما، ولا شكَّ بأن جميع هذه الأعمال، لم تشاهد النور إلا من خلال مبدعين ساهموا في بنائها، وتقديمها إلى المشاهدين في جميع أنحاء العالم العربي، ومن هؤلاء المبدعين المخرج حاتم علي، وسوف ألقِّبهُ بعرَّاب الدراما العربية في القرن الواحد والعشرين، وقد توفي في نهايات شهر ديسمبر من سنة 2020، بعد مسيرة إبداعية حافلة ما زال أثرها باقيًا حتّى هذه اللحظة.
من حياة حاتم علي
لم تكن مرحلة طفولة حاتم علي سهلة؛ حيث وُلِدَ في ستينيات القرن العشرين في منطقة الجولان السوري المحتلة، وعلى أثر النكسة نزح مع عائلته إلى مخيم اليرموك أحد أكبر مخيمات اللاجئين داخل سورية، وتعايش هناك مع صعوبة الحياة بكافة أشكالها؛ لذلك تعدُّ طفولته من المكوِّنات الأساسية لشخصيته، وأحد محفزاته نحو اكتشاف إبداعه، وسعيه للحصول على شهادة في التمثيل من المعهد العالي للفنون، وبسبب تفوقه الأكاديمي والفني استطاع أن يشاركَ في أكثرِ من عملٍ تلفزيوني، قدمه إلى الجمهور العربي واحدًا من الممثلين المميَّزين، وفي تسعينيات القرن العشرين قرر الانتقال للعمل في الإخراج، وقدم مجموعة من المسلسلات والأفلام المهمة.
تعدُّ الظروف المكوِّنة لشخصية حاتم علي من أهم عوامل نجاحه، فنرى أن لتجربته الشخصية في اللجوء، أثرًا كبيرًا في أعماله؛ خاصّة المنبثقة من قضايا إنسانية، كالقضية الفلسطينية التي أخرج لها عملًا يعد واحدًا من أهم الأعمال الدرامية في العقدين الماضيين؛ وهو مسلسل «التغريبة الفلسطينية»، كما منح الجانب الاجتماعي أهمية كبيرة في عمله، فشارك ممثلًا ومخرجًا في مسلسلات اجتماعية، مثل «قوس قزح»، و«مرايا»، وبعد اندلاع الأزمة السورية في سنة 2011 سافر إلى مصر، ثم إلى كندا، وعندما قرر العودة والبدء بتحقيق أحلام جديدة، فاجأته أزمة قلبية، لتعلن رحيله بهدوء وسلام.
إبداعات حاتم علي الفنية
أخرج حاتم علي مجموعة من الأعمال الفنية، وأرى أنها تُصنَّف ضمن خانة الإبداع الفني بامتياز؛ لأنها أثَّرت في النّاس، ودخلت منازلهم بسهولة، وكثيرون هم الذين يكررون مشاهدتها؛ لاستعادة ذكرياتٍ ارتبطت بمرحلةٍ من مراحل حياتهم، وفيما يأتي سوف أستعرض بعضًا من أعمال المخرج الراحل:
المسلسلات الأندلسية
تعدُّ المسلسلات الأندلسية تجربةً فريدةً من نوعها، وقد جمعت بين المخرج حاتم علي، والمؤلف الدكتور وليد سيف، وأثمرت إنتاج سلسلة من المسلسلات التي تناولت التاريخ العربي، ونقلته بكافة تفاصيله وأحواله، وآتت لاحقةً لعمل درامي جمعهما معًا، ويروي قصة حياة صلاح الدين الأيوبي، أمَّا هذه السلسلة تتضمن كُلًا من مسلسلات «صقر قريش»، و«ربيع قرطبة»، و«ملوك الطوائف».
الفصول الأربعة
تمكَّن مسلسل «الفصول الأربعة» من جمع العائلات معًا لمشاهدته في وقت عرضه، ويتحدث بجزئيه عن عائلة كبيرة تتكوَّن من أب وزوجته وخمس بنات إحداهن متوفية، وكل واحدة منهن تشكِّل مع عائلتها طبقة من طبقات المجتمع، والمسلسل من نوع المسلسلات ذات الحلقات المتصلة المنفصلة، فيعيش المشاهد في كلِ حلقةٍ قصة جديدة من قصص أبطال العمل.
التغريبة الفلسطينية
أرى أن مسلسل «التغريبة الفلسطينية» هو من أفضل أعمال حاتم علي؛ بسبب أهميته الحضارية ودوره في توثيق مأساة الشعب الفلسطيني خلال فترة مفصلية من فترات التاريخ؛ حيث قدَّم المسلسل خلاصة الهجرة القسرية للفلسطينيين من أرضهم ووطنهم، والناتجة عن تبعات الاحتلال الإسرائيلي، وما ترتب عليه من نزوح ولجوء، وانضمام الكثير من الشباب إلى العمل الفدائي دفاعًا عن قضية فلسطين، وعبَّرت أغنية بداية المسلسل عن ذلك، وهي من كلمات الشاعر إبراهيم طوقان، وألحان الموسيقار طاهر مامللي، ويقول أحد مقاطعها:
«صامتٌ لو تكلَّما، لفظ النَّارَ والدَّما … قُلْ لمن عابَ صمتَهُ، خُلِقَ الحَزمُ أبكما»
أحلام كبيرة
مسلسل «أحلام كبيرة» واحد من المسلسلات الاجتماعية المشوبة بالعنفوان، الذي يظهر في تسلسل حياة أبطاله، منذ طفولتهم إلى شبابهم ونضجهم، وهو قصة عائلة بسيطة من أبٍ وأمٍ وأربعة أولاد، ضمن إطار اجتماعي يعالج التأثُّر بالمال والحُبّ والطموح؛ لذلك برأيي كان اسمه أحلامًا كبيرة؛ لأن كل شخصية حلمت بحلمٍ ما، وسعت نحو تحقيقه بطريقتها وأسلوبها، وأيضًا كان لأغنية المسلسل دور في نقل صورة عنه؛ وألّفها الشاعر نزيه أبو عفش، ولحَّنها الموسيقار طاهر مامللي، ويقول أحد مقاطعها:
«نامي إذًا يا روح، نامي الآن
هي آخر الأحلام، نطلقها على عجلٍ، ونمضي
هي آخر الأيام، نطويها على عجلٍ ونرحل بسلام»
كأن المقطع السابق يُعبِّر بوضوحٍ عن الرحيل المفاجئ للراحل حاتم علي.
العراب
اسم العرّاب ليس غريبًا عند الكثيرين، فهو اسم رواية «العرَّاب» (The Godfather) للروائي ماريو بوزو، والتي تحوّلت إلى فيلم سينمائي، ولاحقًا أُخذت الفكرة وأصبحت مسلسلًا عربيًّا بجزأين، من إخراج حاتم علي، وحمل الجزء الأوَّل اسم نادي الشرق، والجزء الثَّاني اسم تحت الحزام، مع إعادة صياغة الفكرة الرئيسة لرواية العرَّاب، ووضعها في قالب جديد يتحدث عن إحدى العائلات الثرية، التي تسعى للمحافظة على نفوذها في ظلِّ تأثرها في الأوضاع الاقتصادية المترتبة على الأزمة السورية.
مثلما جمع العرَّاب حاتم علي النَّاس لمشاهدة أعماله الفنية، استطاع أيضًا أن يجمعهم أثناء رحيله، فعندما فرَّقت بين السوريين المواقف، وتباينت الآراء إزاء الأزمة التي ألمَّت في سورية، إلا أنهم اتفقوا على حُبِّ وتقدير حاتم علي، والدعاء له بالرحمة، وتوديعه بدموع غزيرة في مشهد جنازته المهيب، عندما حُمِلَ على الأكفِ، وتجمَّعَ محبوه؛ ليشاركوه رحلته الأخيرة في طرقات المدينة التي أحبَّها (مدينة دمشق)، ليرحل تاركًا وراءه إرثًا، لا يمكن محوه أو نسيانه، وذلك يؤكّد أن المبدع يرحل، ولكن يظلّ إنجازه باقيًا وحاضرًا إلى الأبد، فوداعًا حاتم علي.. عرَّاب الدراما العربية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الإخراج, التغريبة الفلسطينية, التمثيل, الدراما, العراب, حاتم علي, دمشق, ربيع قرطبة, صقر قريش, صلاح الدين الأيوبي, فلسطين, ملوك الطوائف