قراءة نقدية في كتابات هيكل عن الملكية المصرية
زعم الأستاذ محمد حسنين هيكل في الحلقة السابقة، بأن القوات البريطانية في مصر كانت تنعم بأجواء من الهدوء والسكينة خلال السنة الأولى من أحداث الحرب العالمية الثانية، ودلل على ذلك بحالة الاسترخاء التي انتابت قادة هذه القوات مما شجعهم لممارسة طقوسهم المعتادة كالاستجمام والرياضة وقرض الشِّعر. غير أن الأستاذ هيكل ترك الحالة السياسية لمصر في تلك السنة وانعطف بحديثه ليخوض بسوء نية في سلوكيات وأخلاقيات رجال حكم العصر الملكي.
وفي هذه الحلقة يواصل الأستاذ هيكل ادعاءاته السابقة ويتحدث عن تدني نزاهة رجال السياسة في الحقبة الملكية، واتهامهم بما ليس فيهم وطعنهم بتهم العمالة والخيانة بغير دليل منطقي أو سند عقلي.
حديث الأستاذ هيكل في هذه الحلقة يبتعد كثيرًا عن الحقيقة ويخرج من نطاق التاريخ ولنا عليه عدة وقفات.
يقول هيكل:
وكان السير مايلز لامبسون يراقب ويتابع، وتكشف الوثائق أن واحدًا من مصادره في ذلك الوقت كان الأمير محمد علي ولي العهد.
ويكتب مايلز لامبسون في أحد تقاريره: ذكر لي الأمير محمد علي أن علي ماهر (رئيس الوزارة) طلب من محمد محمود خليل (رئيس مجلس الشيوخ) إبلاغ السفير الإيطالي الكونت ماتزوليني، «أن مصر لن تعلن الحرب على ألمانيا رغم أن ذلك مفروض عليها بالمعاهدة».
وفي مرة ثانية نقل مايلز لامبسون عن ولي العهد: «أنه ذهب إلى القصر «ينذرهم» بأن عدم دخول الحرب ضد ألمانيا قصر نظر سياسي منهم»، وأضاف الأمير: «قلت لهم إن أخي (عباس حلمي) فقد عرشه لأنه تردد في موقف مماثل، ثم إنني كنت الخلف الطبيعي له على العرش، ولولا أن الجنرال ماكسويل (القائد العام للقوات البريطانية في مصر) فهم خطأ كلمة قلتها له، وظن أنني أتردد، لكنت أنا الآن سيد قصر عابدين وليس فاروق»، أضاف محمد علي: «قلت لهم ذلك في وجههم ولم يفهموا لأن فاروق لا يريد أن يتعلم شيئا!».
ثم بدأ الشك البريطاني يتخلى عن تحفظه عندما وصلت «معركة المصائر إلى جنوب البحر الأبيض وإلى مصر، وفي المرحلة التي كانت بريطانيا تقف فيها وحدها في ميدان القتال ضد هتلر».
وهنا جاء الطلب البريطاني بخروج علي ماهر (باشا) من رئاسة الوزارة في مصر بصيغة الأمر؛ لأن الأوضاع لم تعد تحتمل، وكان خروج علي ماهر إثر برقية بتوقيع وزير الخارجية البريطانية أنتوني إيدن إلى السفير البريطاني في القاهرة السير مايلز لامبسون، نصها أربع كلمات: «علي ماهر يجب أن يذهب» (Aly Maher must go).
وقد طار السير مايلز لامبسون من القاهرة إلى الإسكندرية يوم 13 يونيو 1940 ليقابل الملك فاروق وينقل إليه الأمر بنفسه موضحًا (حسب نص تقريره) «أن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تصبر على وجود رئيس وزراء مصري لا تثق فيه، ولا يثق فيه الشعب المصري نفسه لأنه لا يمثله»، وعندما حاول الملك فاروق أن يتذرع باستقلال مصر، رد عليه لامبسون بقوله: «أرجوك لا تلعب بالنار، وأن تحاول بدلا من ذلك إجراء مشاورات تجيء بحكومة تمثل الأغلبية في مصر وربما «رأيت» – جلالتك – أن يكون النحاس (باشا) ضمن من تتشاور معهم»!
وكتب السير مايلز لامبسون تلك الليلة إلى وزارة الخارجية في لندن ليقول: «إنني لم أطلب ما هو أكثر ولم أحاول أن أصر – مثلا – على أن تدخل مصر الحرب رسميا، لأني لا أرى من ذلك كسبا يتحقق لنا».
ولم يقاوم الملك فاروق كثيرا في إخراج علي ماهر بل إنه – بناء على نصيحة رئيس ديوانه أحمد حسنين (باشا) جاء إلى رئاسة الوزراء بصديق للإنجليز هو حسن صبري (باشا)، لكن الرجل لم يقض في رئاسة الوزارة غير بضعة أشهر، ثم فاجأته نوبة قلبية قضت عليه واقفا أمام الملك فاروق يلقي خطاب العرش في قاعة مجلس النواب في البرلمان المصري، ومرة أخرى اختار الملك لرئاسة الوزارة صديقا آخر للإنجليز هو حسين سري (باشا).
[ولم يكن هؤلاء الرجال من أمثال حسن صبـري وحسين سري عملاء للإنجليز، وإنما ساسة يعتقدون بضرورة التفاهم مع بريطانيا لبلوغ المطالب المصرية لأن ذلك أسـلم من مواجهة غير متكافئة معها، في زمـن حرب لا تستطيع مصر أن تؤثر في مجراها، وعلى فرض أنها كانت تستطيع، فقد كان رأي هؤلاء الساسة أن «الشيطان البريطاني» الذي يعرفونه أفضل من «الشيطان الإيطالي أو الألماني» الذي يدخل بلدهم بقوة السلاح في حرب عالمية].
التعليق:
نلاحظ بالقراءة السريعة، بل ومن الوهلة الأولى لحديث الأستاذ محمد حسنين هيكل في الفقرة السابقة، أن الأستاذ هيكل لا يريد أن يسرد تاريخًا بل كان جل اهتمامه هو إهانة رجال حكم العصر الملكي والدليل على ذلك بأنه يصدر أحكاما مسبقة دون أسانيد أو براهين عقلية أوحتى تفسيرات مقبولة.
فعلي ماهر باشا رئيس الوزراء في ذلك الحين تصرف بما تمليه عليه مصلحة مصر، لأنه المسؤول الأول سياسيا، لذلك سانده وعضده الملك فاروق وفقا لواجبه الوطني وكملك دستوري، أما القول بأن علي ماهر كان يحابي دول المحور فهذ كلام ليس بصحيح فكل تعاملات علي ماهر بدول المحور في ذلك الوقت كانت في إطار الاتفاقيات والأعراف الدولية بحكم أن مصر دولة محايدة.
ولأجل إجلاء الغموض في حديث الأستاذ هيكل وإثبات سوء نيته فسوف نقوم بتفسيره مفصلا وفي عدة نقاط:
أولا: يقول الأستاذ هيكل أن الأمير محمد علي ولي العهد كان أحد المصادر المعلوماتية للسفير البريطاني، لكن الأستاذ هيكل كان يقصد بهذا الأمر أن الأمير محمد علي كان أحد رجال السفير البريطاني في القصر الملكي، أي أنه أحد عملاء الإنجليز، وبالتالي يمكن صبغه بتهمة الخيانة، لكن الحقيقية أن الأمير محمد علي بصفته ولي العهد فمن الطبيعي أن يكون له علاقات شتى مع كثير من السفارات في مصر وأيضًا علاقات خارج مصر، لكن سوء نيته الأستاذ هيكل أخرجت حديثه من مجراه الطبيعي وهو العلاقات المتبادلة بين رجال الحكم في مصر والدول الأخرى إلى علاقات العمالة والخيانة.
أما القول بأن الأمير محمد علي أخبرالسفير البريطاني بأن رئيس الحكومة علي ماهر باشا والملك فاروق يعملان ضد الإمبراطورية البريطانية، فسوء نية الأستاذ هيكل تقصد به أن هناك خصام وصراع داخل العائلة المالكة المصرية على الحكم، لدرجة أن قيام بعض أفراد هذه العائلة بأدوار العمالة والخيانة من أجل الحكم، وهذا هو هدف الأستاذ هيكل وهو وصم العائلة المالكة المصرية بتهم العمالة والخيانة.
ثانيا: إن الحكومة المصرية برئاسة علي ماهر تصرفت بما يضمن المصالح المصرية، وعدم تعرض تلك المصالح للخطر وذلك طبقا للأعراف الدولية، ولكن بريطانيا ممثلة في سفيرها لدى القاهرة السير مايلز لامبسون أرادت الضغط على مصر لدخول الحرب العالمية الثانية بجوار بريطانيا خاصة بعد إعلان إيطاليا انضمامها لألمانيا، وإن عدم انصياع الحكومة المصرية لذلك يعتبر عدم تعاون، وعندما تأكد لامبسون أن علي ماهر لن يقبل موضوع دخول مصر الحرب، بدأ يتذرع بالعديد من المواقف التي تمكنه من تحقيق كل رغباته وفي مقدمتها الإطاحة بعلي ماهر، وقد أعلن علي ماهر في شهادته أثناء نظر قضية اغتيال أمين عثمان عام 1946، أن السفير البريطاني قد طلب منه أن يعتقل الوزير الإيطالي في المفوضية الإيطالية بالقاهرة، وأن يقوم بتفتيشها.
كما طالبه أن يفتش أمتعة الدبلوماسيين الإيطاليين وجيوبهم وقت السفر، وألا يسمح لإيطالي بالسفر إلا للسفير وموظفي المفوضية، ويضيف علي ماهر: لقد كان ردّي: إذا اعتقلتم أنتم إنجلترا الكونت جراندي سفير إيطاليا في لندن أعمل المثل أنا في مصر، وأما التفتيش فإنني أرفضه. وقلت: وإذا أردتم فتشوا أنتم ومن ناحيتي فلن أحتج وقلت لهم أيضًا: إن هذا التفتيش في الواقع لن يكون، لأن الكونت جراندي موضع التكريم في بلادكم فلن أعاملهم أنا إلا بقواعد العرف الدولي، والذين يسافرون معه لن أحجزهم إلا إذا تبينت موقف المصريين في روما وما يتخذ بشأنهم.
ونرى أن هذا الموقف من علي ماهر ينم عن دهاء سياسي، فهو يريد أن تقدم بريطانيا لاتخاذ ما تراه بشأن الإيطاليين المقيمين في مصر، حتى يبدو أمام الطليان وكأنه مغلوب على أمره، ومن جانب آخر فهو يضمن سلامة الرعايا المصريين المقيمين في إيطاليا.
وأمام الضغط المتزايد على علي ماهر، فقد أشار عليه الملك فاروق بنقل القضية – دخول مصر الحرب – إلى البرلمان ليتخذ بشأنها ما يشاء – ويعد قرار البرلمان صدمة أخرى للسفير، حيث أقر البرلمان وجهة نظر الحكومة بأن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب، وأنها ستكتفي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا، ولن تعلن عليها الحرب إلا إذا اعتدت عليها بإحدى الطرق الآتية:
( 1 ) إذا بدأت القوات الإيطالية بغزو الأراضي المصرية.
( 2 ) إذا ضربت إيطاليا المدن المصرية بالقنابل.
( 3 ) إذا شنت غارات جوية على مواقع الجيش المصري.
وفي يوم 13 يونيه 1940، بدأ السفير البريطاني يتبع سياسة جديدة لا تتفق أحيانا مع توجيهات الخارحية البريطانية، بل تحقق نفس الغرض وهو ضرورة الحصول على تعاون علي ماهر، وعدم التنازل عن أي شيء أكثر من نصوص المعاهدة، مما جعل لامبسون يقول عنه: إن علي ماهر يتبع سياسة ذات وجهين بين بريطانيا وإيطاليا، وأنه يعمل على تسهيل الأمور للإيطاليين، وأنه يتلاعب بطريقة مقلقة فيما يختص بالجيش المصري.
ومن الواضح أن الخلاف بين إنجلترا وعلي ماهر كان السبب في استقالته، وهو خلاف قائم على التشكك وفقدان الثقة من الجانب البريطاني في علي ماهر، اعتقادًا بأنه على علاقة بالمحور، ووفقًا لما ذكره الدكتور هيكل «الدكتور محمد حسين هيكل الأديب والسياسي صاحب قصة زينب، ورئيس حزب الأحرار الدستوريين قبل عام 1952» فإن بريطانيا وجهت إلى الملك فاروق تبليغا بأن حكومته لا تقف منها موقف الصديق وأنها في ريب من نواياها.
وعلى هذا فقد ادعت السلطات البريطانية، أنها اكتشفت من بين الوثائق الألمانية التي عثر عليها، أن علي ماهر كان يتلقي مساعدات من المحور عن طريق بنك درسدنر، بالإضافة إلى أنه يعمل لحساب الألمان، إلا أن مثل هذه الاتهامات لا يمكن تقبلها على أنها حقيقة مجردة، وخصوصًا إذا ما تضاربت المصادر البريطانية في هذا الصدد، فإن اللورد ويلسون القائد العسكري للقوات البريطانية في مصر يقول تعقيبا على هذا: «أنه لما يدعو إلى الدهشة، أن المعلومات التي وصلت إلى المحور من مصر، كانت ضئيلة القيمة، ولا أعرف حالة واحدة تضمنت معلومات عن تحركاتنا أو عملياتنا العسكرية تسربت إلى العدو في الوقت المناسب الذي يتيح له استخدام تلك المعلومات لمواجهتنا».
وهذا يعد دليلا على عدم وجود علاقة من نوع ما بين وزارة علي ماهر والمحور، ولذا فإننا نرى أن علي ماهر لم يكن يحابي دول المحور، ولكن كان سياسيا مصريا، حاول أن يستغل لعبة الأمم وصراعاتها في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال.
وهذا هو الموقف الحقيقي لعلي ماهر باشا وحكومته تجاه بريطانيا إبان أزمة اشتراك مصر في الحرب العالمية الثانية، لكن الأستاذ محمد حسنين هيكل أراد تشويه صورة رجال حكم العصر الملكي واتهامهم بتهم مغرضة والغريب أن اتهامات هيكل هذه متناقضة مع بعضها، فمرة يتهم الأمير محمد علي بتهم الخيانة والعمالة للإنجليز، ومرة ثانية يتهم علي ماهر باشا بتهمة مجابهة ومعارضة بريطانيا العظمى بتصرفات حمقاء مما ينتج عنه تعرض البلاد للخطر، ولكن السؤال هنا: هل هجوم هيكل هنا ضد علي ماهر بسبب أنه أحد رجال الحكم الملكي بالرغم من محاباة علي ماهر لضباط انقلاب يوليو1952 أصدقاء هيكل في كثير من الأمور عقب الانقلاب مباشرة، أم أن هناك أسبابا أخرى؟ والإجابة: إن هجوم هيكل تجاه علي ماهر ليس فقط بسبب أنه أحد رجال العصر الملكي ولكن بسبب آخر وهو أن علي ماهر عندما اختير لرئاسة الوزراء أثناء انقلاب 23 يوليو 1952، تعاطف كثيرًا مع ضباط يوليو، ولكنه بعد ذلك عارض تدخل هؤلاء الضباط في أعمال وزارته.
وفي هذا الأمر تقول برقية للقائم بالأعمال البريطاني في السفارة البريطانية بالقاهرة المستر كريزويل في 27 يوليو 1952: «اتصلت بعلي ماهر للاعتذار عن الاتصالات غير الرسمية التي قمت بها مع اللواء محمد نجيب وليس معه، فكان جوابه أن دعاني إلى زيارته هذا الصباح لتجاذب أطراف الحديث الودي، واعترف رئيس الوزراء بأنه يواجه أحيانًا بعض الصعاب في التعامل مع الجيش».
ولم تستمر وزارة علي ماهر إلا شهرا واحدا فقط، فقد تطورت تدخلات ضباط يوليو في أعمال هذه الوزارة حتى وصلت لحد الصدام، مما اضطر معها علي ماهر إلى تقديم استقالته.
ولأن الأستاذ هيكل كان من أنصار ضباط انقلاب يوليو و أيضًا من ضمن واضعي مخططاتهم، أراد هنا الانتقام من علي ماهر باشا بسبب معارضته (أي علي ماهر) لهؤلاء الضباط أثناء تولي وزارته الأخيرة.
ثالثا: بالرغم من ذم الأستاذ هيكل لرجال العصر الملكي، إلا أنه في حالة الحديث عن حسن صبري باشا وحسين سري باشا نجده يدافع عنهما بل ويمتدحهما، ففي الجزء الأخير من حديث هيكل هنا يبرر لكل من حسن صبري باشا وحسين سري باشا دوافع صداقتهما للإنجليز، ويقول عنهما أنهما لم يكونا من العملاء ولكن كانت سياستهما التفاهم وعدم الصدام مع الإنجليز وهدا أسلم وأصلح لمصر…. إلخ، ولكن لماذا يمتدح هيكل كلًّا من حسن صبري باشا وحسين سري باشا بالرغم من كونهما من ضمن رجال العصر الملكي؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنه من المعروف تاريخيا أن حسين سري باشا بالرغم من أنه له صلة قرابة بالملك فاروق (خال الملكة فريدة الزوجة الأولى للملك فاروق) إلا أنه عقب انقلاب يوليو23 يوليو 1952، قام بشهادة مشكوك في نزاهتها ضد الملك فاروق أمام إحدى المحاكمات التي أقامها ضباط يوليو لرجال العصر الملكي. وهذا الأمر أسعد كثيرًا الأستاذ هيكل الناقم على عصر الملكية المحب لعصر انقلاب يوليو،
وفي هذا الصدد نعرض جزءًا من شهادة حسين سري باشا أثناء محاكمة كريم ثابت (المستشار الصحفي للملك فاروق) بتهمة الفساد، أمام محكمة الانقلاب (يقال عنها محكمة الثورة) برئاسة البكباشي عبداللطيف البغدادي وعضوية كل من أنور السادات وحسن إبراهيم، والتي نشرت وقائعها جريدة الأهرام يوم 16 / 10 / 1953.
رئيس المحكمة (عبداللطيف البغدادي) يسأل الشاهد (حسين سري باشا):
رئيس المحكمة: هل كان كريم ثابت (المتهم) من ضمن الشلة التي أفسدت الملك؟
الشاهد: يجب أن ننظر في عقلية الملك، كل إنسان كان يعتقد أن الملك ولي من أولياء الله، وأن الشلة اللي حواليه هي التي أفسدته، ولكن أقول كلمة للتاريخ، الملك نفسه ماكانش كويس وكان يتلذذ بأن يسمع كلامًا يرضي شهوته، يعني أخلاقه الشخصية وتكوينه ماكانش كويس، وكان بطبيعة الحال لو اجتمع بناس كويسين، يمكن كان انصلح بعد مدة.
*(جريدة الأهرام في 16/10/1953 – الصفحة 11)
أما حسن صبري باشا فإن قصر عمر وزارته، لم يعطِ هيكل فرصة للتشفي منه بكونه أحد رجال العصر الملكي، فقد لقي ربه بعد تشكيله لوزراته بخمسة أشهر فقط، وهو يلقي خطاب العرش بالبرلمان في حضور الملك فاروق. وإن كان تبرير هيكل لأعمال وزراته بمثابة تثمين وإثابه لحياته السياسية.
والسؤال الأهم هنا، كيف تكون مصر دولة مستقلة بحكم معاهدة 1936، ونرى مثل هذه التدخلات في السياسة المصرية من جانب بريطانيا؟
الحقيقية أن مصر استقلت قبل عام 1936، فهناك اتجاة يقول إن مصر استقلت عام 1914 بعد انفصالها عن تركيا، واتجاه آخر يقول إن مصر استقلت فعليا بعد ذلك، وبالتحديد يوم 28 فبراير 1922 عقب تصريح 28 فبراير الشهير الذي أصدرته بريطانيا بشان أستقلال مصر، لكن بريطانيا احتفظت في هذا التصريح بحقها بحماية مصالحها في مصر، لذا كانت تدخلاتها في السياسة المصرية حتى عام 1936 بما يحفظ تلك المصالح، وبعد توقيع معاهدة 1936 حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، أقتصر تدخل بريطانيا في السياسة المصرية بما لا يعرضها ويعرض قواتها بمصر للخطر، أما بعد ذلك فتكاد تدخلات بريطانيا في الحياة السياسية المصرية لا تذكر، واقتصرت على إبداء النصائح للأطراف السياسية المشاركة في الحكم والأطراف السياسية الأخرى الفعالة في الواقع السياسي المصري، ولكن منذ ذلك الوقت بدأ النفوذ الأمريكي في الظهور وأخذ يملأ الفراغ البريطاني.
وبناء على ذلك نجد وتيرة تدخلات بريطانيا زادت حدتها بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبما أن بريطانيا دولة عظمى في ذلك الوقت ولها قوات كبيرة بمصر فضلا عن ضغوط الحرب العالمية الثانية، فإنه من الطبيعي أن يكون لها تدخلات في السياسة المصرية. ولاتوجد دولة واحدة في العالم حتى الآن لا تذعن لمصالح الدول العظمى، فنجد دول أوروبا اليوم متفقه تماما مع المصالح الأمريكية، حتى دول الشرق الأوسط يتغلغل فيها مصالح الدول الكبرى، ومصر بعد 1952 نجدها سقطت تحت النفوذ الأمريكي منفردًا حتى بداية عام 1957، ثم بعدها انخرطت في أحابيل النفوذ السوفييتي والأمريكي معًا حتى مشارف عام 1972، ومنذ ذلك التاريخ ومصر ترزح تحت الطغيان الأمريكي إلى اليوم. أما من يقول بغير ذلك فقد كذب!
وخلال الفترة بين توقيع معاهدة 1936 ونهاية الحرب العالمية الثانية، نجد الملك فاروق وأغلب حكومات تلك الفترة قاومت تدخلات السلطة البريطانية بقدر ما تستطيع بما يتفق ومصلحة مصر، وهذا إنجاز يحسب لهم، ولكن الأستاذ محمد حسنين هيكل اجتهد في قلب الحقيقية بتحويل هذا الإنجاز إلى انتكاسة ومهانة وضعف وذلك باتهامه بغير دليل واقعي أو سند حقيقي لتلك الحكومات والملك فاروق بالرضوخ للضغوط البريطانية، ليس إلا نكاية في سياسة ورجال العصر الملكي وتبرير قيام انقلاب يوليو 1952.
وأخيرًا نجد الأستاذ محمد حسنين هيكل قد وقع في أخطاء تاريخية شنيعة في حديثه هذا، فهو يقول إن أنتوني إيدن وزير خارجية بريطانيا هو الذي أصدر إنذارًا بخروج علي ماهر في 13 يونيو 1940، ولكن الحقيقة أن الذي أصدر تبليغ بتغير حكومة علي ماهر هو اللورد هاليفاكس وزير الخارجية البريطاني وكان ذلك يوم 17 يونيو 1940،
أيضًا يقول هيكل إن الإنذار البريطاني للملك فاروق كان بصيغة الأمر هو أن علي ماهر يجب أن يرحل، لكن الحقيقية أن هذا الطلب كان عبارة عن تبليغ بريطاني للملك فاروق وقد صيغ في صيغة دبلوماسية بليغة وهو «أن حكومته لا تقف من إنجلترا موقف الصديق وأنها في ريب من نواياها»، فلا يعقل أن الخارجية البريطانية تصدر تبليغًا ضد الأعراف الدبلوماسية وخارج عن اللياقة الأدبية، لكن الأستاذ هيكل بسوء نية يريد قلب الحقائق وترديد الشائعات، فعبارة الإنذار البريطاني بوجوب خلع علي ماهر كانت شائعة ويقف وراءها الصحفي محمد التابعي الذي أخذ منه هيكل تلك الرواية الملفقة.
لم تتوقف أخطاء هيكل التاريخية عن ذلك بل تمادى فيها بذكرأن أحمد حسنين باشا (رئيس الديوان الملكي) نصح الملك فاروق بأن يكلف حسن صبري باشا بتشكيل الحكومة بعد إعفاء حكومة علي ماهر، فكيف يكون هذا الأمر؟ وأحمد حسنين باشا لم يتولَّ رئاسة الديوان الملكي إلا بعد تكليف حسن صبري باشا برئاسة الحكومة بحوالي شهر، فقد عهد الملك فاروق لحسن صبري باشا بتأليف الوزارة في 28 / 6 / 1940، وتم تعيين أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي يوم 27 / 7 / 1940.
إن الأخطاء التاريخية هذه، والتي صدرت من الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي يعتبره البعض أحد مصادر التاريخ المصري الحديث، لا يصح أن يقع فيها تلاميذ المدارس الابتدائية المصرية.
وللحديث بقية إن شاء الله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست