صب الأستاذ محمد حسنين هيكل في حديث الحلقة السابقة، على تصرفات الملك فاروق وأداء حكومة علي ماهر وسلوك بعض رجال الحكم الملكي، في تعاملهم مع أحداث اندلاع الحرب العالمية الثانية، الكثير من تهم العمالة والخيانة والضعف، بغير دليل حقيقي أو برهان واقعي، لأجل صبغ ساسة العصر الملكي بصبغة الانحطاط والانحلال والانهزام.
واليوم يستكمل الأستاذ هيكل اتهاماته ولعناته ولكن بطريقة أخرى من طرق تزييف التاريخ وتغييب العقول وهي طريقة المحاكاة ونسج القصص الوهمية المقتبسة من عالم الخيال والجاسوسية.
قصص هيكل هذه، تستحق أن يلقي الضوء عليها ناقد أدبي متمرس وليس باحث في التاريخ، وبالرغم من خيالية أقاصيص هيكل وغرابتها، فسوف نتوقف عند بعض أحداثها وتاريخها لنتأمل حقيقتها وأهدافها وما وراءها!
يقول هيكل
وفي بداية 1941 (يوم 20 فبراير) وقع حادث لافت للنظر، فقد تم التحفظ في فلسطين على دبلوماسي روماني بدرجة وزير مفوض اسمه «أولجار ناناسيسكو»، وكان قادما من تركيا عبر سوريا يحمل ثلاث حقائب، والظاهر أنه كانت لدى السلطات البريطانية معلومات دعتها إلى مخالفة الأعراف الدولية، فأمرت بتوقيف الدبلوماسي الروماني وفتح حقائبه للتفتيش، وإذا هي تحتوي على أجهزة استقبال وإرسال لاسلكية برسم التسليم إلى قنصلية رومانيا في الإسكندرية. وكانت ضمن المضبوطات أوراق تحتوي على تعليمات بموجات اتصال يومي منظم على ترددات لاسلكية محددة، كما كان هناك كشف بعدد من الأسئلة تطلب معلومات تفصيلية عن أوضاع الأسطول البريطاني في ميناء الإسكندرية. والأهم أن تلك المضبوطات من الأوراق كانت فيها نسخة من الخطة العسكرية للقوات البريطانية في الشرق الأوسط.
وكان ذلك نذير خطر مضاعف، فقد تبدى لهذه العملية معنى يتجاوز الواقعة وتفاصيلها، مؤداه أن الخطر على الأمن في مصر لم يعد «ألمانيا» أو «إيطاليا» ولم يعد طرفا معينا يمكن تحديده وترصده، وإنما الخطر اتسع نطاقه بسيطرة «هتلر» على أوروبا وبما نتيجته أن أي أوربي هو جاسوس محتمل متنكر ـ والدليل أنه في هذه الواقعة دبلوماسي روماني.
وتلقى السفير البريطاني في القاهرة (وزارة الخارجية البريطانية 371/ تحت رقم 249) تعليمات بأن يتصل برئيس الوزراء «حسين سري» باشا، ويطلب منه إغلاق القنصلية الرومانية في الإسكندرية، وترحيل العاملين فيها، مع امتنان الحكومة البريطانية إذا شمل الإجراء أيضا إبلاغ الوزير المفوض الروماني في القاهرة أنه شخص غير مرغوب فيه.
وكتب السفير البريطاني في القاهرة بتاريخ 5 مارس (ملف وزارة الخارجية البريطانية 371/ تحت رقم 552) يقول: «تأخرت في مقابلة رئيس الوزراء لأنه كان في جولة يطوف خلالها ببعض المحافظات. وعندما لقيته اليوم سلمته مذكرة بطلباتكم. ونظر إليّ (سري باشا) باستغراب وسألني: هل أنتم في حرب مع رومانيا؟، وعندما أجبته بالنفي قال لي: إذن فأنا غير مستعد لإجابة طلباتكم»، ثم أضاف «إن مصر ليست مستعمرة وهي على غير استعداد لأن تطيع السياسة البريطانية طاعة عمياء»، وقمت بلفت نظره إلي أن لندن لن تكون مسرورة بما سوف أنقله لها مما أسمعه منه، ولم يغير “سري” (باشا) موقفه وإن حاول تلطيفه بقوله: «إنه لو كان الدبلوماسي الروماني قبض عليه في مصر لاختلف الأمر، لكن القبض عليه وقع في فلسطين، وإضافة إلى ذلك فإن الرجل ليس مستشارا للسفارة الرومانية في القاهرة»، وفهمت أن (سري باشا) كان يعرف أن (ناناسيسكو) بدأ سفره إلى مصر من تركيا، وأنه هناك قابل السفير الألماني (فون بابن)، ومع ذلك فإن معرفته تلك لم يغير رأيه. واقتراحي إليكم أن تفوضوني إبلاغه بخيبة أملكم في تعاونه معنا لأن دراستي لشخصية (حسين سري) أكدت لي أنه لا يتحرك إلا بالضغط الشديد عليه».
ولم تمض أيام قليلة حتى أبرقت وزارة الحربية في لندن إلى الملحق العسكري البريطاني (وثيقة 45/ 418/ 16) تلفت نظره إلى أن القنصلية اليابانية في الإسكندرية تقوم بنشاط مشبوه في متابعة دخول وخروج وحدات الأسطول البريطاني من ميناء الإسكندرية.
ثم كتبت وزارة الحربية (المخابرات العسكرية) (وثيقة ج.هـ 517) إلى وزارة الخارجية تقول لها: «يبدو أنه سوف يكون عليكم اتخاذ إجراءات قوية مع الحكومة المصرية حتى تفعل شيئا حاسما لوقف نشاط معاد تقوم به بعض القنصليات الأجنبية في مصر. إننا سمعنا علاوة على ذلك من مصادرنا في أوروبا أن «عددا من الممثلين المصريين يرون أن الظرف مناسب لكي تمارس بلادهم نوعا من الاستقلال «المزعوم» يجعلها نائية بمسافة معقولة عنا، وذهب بعضهم أكثر ليوحي لحكومته بأنهم الآن يستطيعون استغلال الظرف الحرج بالنسبة لنا، حتى يحصلوا على تنازلات منا، وتقديرهم أن مأزقنا الراهن فرصتهم المتاحة».
التعليق
هذه بعض من الأقاصيص الأكشن التي نسجها الأستاذ هيكل، حيث يزعم أنها حدثت فيما يتعلق بالأوضاع السياسية بمصر في بدايات الحرب العالمية الثانية.
ويعرض الأستاذ هيكل هنا أقاصيصه، متضمنة ردود فعل السلطات العسكرية البريطانية تجاه أحداثها وأيضا تصرفات الحكومة المصرية حيالها.
ولأجل كشف زيف هيكل لحقائق التاريخ المصرى، سوف نقوم اليوم بالتحقيق في مدى صحة ما يدعيه هيكل في أقاصيصه هذه.
أولا: لقد ابتدع الأستاذ هيكل قصة خائبة لاتنطلي على عقل طفل وهي قصة حادث الدبلوماسي الروماني، فهذه قصة لاوجود لها على الإطلاق، فليس لها أي أثر غير في خيال هيكل نفسه، لقد ابتدع هيكل هذه القصة، للادعاء بأن نظام الحكم الملكي لايستطيع أن يواجه تعسف السلطات العسكرية البريطانية، لأنه حكم ضعيف، مما يبرر قيام انقلاب يوليو 1952.
وبالبحث في أصول قصة الدبلوماسي الروماني، اتضح لنا أنه لايوجد على الإطلاق قنصلية لرومانيا بالإسكندرية في ذلك الوقت، وأول قنصلية افتتحت لرومانيا بالإسكندرية كانت عام 2007، كما أن السفارة الرومانية بالقاهرة كانت مغلقة بنهاية عام 1940، بسبب انضمام رومانيا لدول المحور في الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا يقول الدكتور قسطنطين بوتوران أستاذ التاريخ الروماني في رسالته التي نوقشت ونشرت عام 1974، عن العلاقات المصرية الرومانية: أنه في أوائل القرن العشرين، كانت توجد جاليه رومانية في مصر يتراوح عددها بين 400 و500 فرد، وكانوا يقومون بأعمال التجارة بين البلدين، وكان لهم بورصة خاصة بهم، وكانوا ينقلون الأخشاب الرومانية وبعض مشتقات البترول والملح المعدني من براهوفا إلى مصر، والقطن المصري إلى رومانيا، وعن طريق إلحاحهم على الحكومة الرومانية لتحفيز وحماية مصالحهم، تم في أبريل 1906 صدور أمر ملكي بإقامة علاقات دبلوماسية مع مصر، وفي نفس العام تم افتتاح خط ملاحي منتظم بين كونستانزا والأسكندرية، وقبل الحربين العالميتين كانت العلاقات قوية، ولكنها تأثرت بملابسات الحرب العالمية الثانية، ثم عادت إلى طبيعتها سنة 1946؛ حيث فتحت رومانيا سفارتها في القاهرة مرة أخرى.
والملاحظة الملفتة للنظر في تلك القصة أن الأستاذ هيكل يدعي أن رومانيا في ذلك الوقت كانت دولة غير محاربة، مع أن الحقيقة أن رومانيا إثر احتلالها من قبل ألمانيا في أكتوبر عام 1940، أعلنت بعدها مباشرة في نوفمبر 1940 دخولها الحرب إلى جانب دول المحور.
ونفرض أننا نساير هيكل في قصته الخيالية فهل يعقل أن يقول: «كانت من ضمن الأوراق المضبوطة نسخة من الخطة العسكرية للقوات البريطانية في الشرق الأوسط».
فغالبا الخطط العسكرية الرئيسية تكون مع العسكريين الكبار، ودائما ما تحاط هذه الخطط العسكرية بستار من السرية التامة، كما يوجد بدائل وهمية لهذه الخطط. فماذا يفعل موظفون مدنيون في قنصلية بهذه الخطط، حتى لو كان هناك في القنصلية المزعومة عسكريون، فإن مهمتهم كما يزعم هيكل مراقبة تحركات الأسطول البريطاني في ميناء الإسكندرية، على الرغم من أن الأسطول البريطاني كان منتشرا في كثير من مواني البحر المتوسط ويخوض أكثر من معركة في نفس الوقت مع البحرية الإيطالية.
وأيضا هل يعقل أن تدون الشفرات السرية في كتيب أو قائمة ويتم ضبطها بالشكل الذي ذكره هيكل في قصته؟
والأغرب من كل ذلك في قصة هيكل المصطنعة أنه يسرد أحداثا مثيرة للسخرية مثل قوله:
«أن ناناسيسكو بدأ سفره إلى مصر من تركيا وهناك قابل السفير الألماني (فون بابن)»
وهنا يريد هيكل أن يقول: أن الدبلوماسي الروماني قابل السفير الألماني في تركيا وهذا السفير هو الذي زوده بالمعلومات وأدوات التجسس الألمانية، وأشار عليه بأن يكون خط سيره بداية من تركيا مرورا بفلسطين ثم إلى مصر حتى يكون بعيدا عن عيون المخابرات البريطانية، ولكن لحظه العاثر تم القبض عليه قبل وصوله لمصر.
وطبعا هنا تحايل من هيكل على قرائه وذلك بسرده خط سير وهمي ومغلوط وساذج للدبلوماسي الروماني ناناسيسكو، مع العلم أن رومانيا كانت أصلا محتلة من قبل ألمانيا وتحارب معها، بمعنى أن رومانيا في حالة حرب مع بريطانيا، وبالتالي فكل الدبلوماسيين الرومانيون سوف يخضعون للتفتيش في فلسطين سواء كانوا قادمون من تركيا أو رومانيا أو أي بلد آخر، لأن فلسطين كانت تخضع للانتداب البريطاني في ذلك الوقت. ولكن لماذا هذا التحايل الساذج؟
والإجابة عن هذا السؤال: أن هيكل يريد أن يوهم القارئ بهذا الالتفاف، بأنه يفهم جيدا (أي هيكل) في أمور الجاسوسية وطرق التمويه.كما يريد أيضا أن يقول: أن حسين سري له اتصالات مع الألمان بحكم أنه رئيس حكومة مصر وهي دولة محايدة، بالإضافة أن الأستاذ هيكل يمهد ويهيىء القارئ بما سيقوله فيما بعد وهو الطعن في تصرفات الملك فاروق بأن له اتصالات مع الألمان وخاصة السفير الألمانى في تركيا فون بابن.
غير أن هيكل بالرغم من التنويه بأن حسين سري له أيضا علاقات مع الألمان، إلا أنه يدافع عنه دائما وذلك بادعائه بأنه رفض طلبات السفير البريطاني إغلاق القنصلية الرومانية المزعومة وترحيل العاملين فيها: «مما يدل على أن حسين سري رجل وطني لايخضع للإنجليز، مع أن الملك فاروق قاوم الإنجليز كثيرا ورفض طلبات مماثلة، إلا أنه في نظر الأستاذ هيكل خائن وعميل، والسبب في محاباة هيكل لحسين سري، هو كما قلنا في الحلقة السابقة، أن حسين سري شهد أمام إحدى محاكم الانقلاب ضد الملك فاروق في شهادة مشكوك في نزاهتها، وهذه الشهادة أسعدت هيكل كثيرا.
ثانيا: يعرض الأستاذ هيكل وثيقة يدعي أنها صادرة من وزارة الحربية البريطانية تحمل رقم (45 / 418 / 16)، ومفادها أن وزارة الحربية البريطانية أرسلت برقية إلى الملحق العسكري البريطاني بالقاهرة تلفت نظره إلى أن القنصلية اليابانية في الإسكندرية تقوم بنشاط مشبوه في متابعة دخول وخروج الأسطول البريطاني من ميناء الإسكندرية.
ولكن القارئ العادي إذا نظر إلى هذه الوثيقة التي يدعيها هيكل، وللوهلة الأولى تظهر أنها وثيقة غير حقيقية، فالمعروف لعدد غير قليل من القراء أن وثائق الاستخبارات العسكرية البريطانية الخاصة بالحرب العالمية الثانية لم يفرج عنها حتى اليوم غير القليل منها وبأحكام قضائية، فمن أين حصل هيكل على تلك الوثيقة؟
قد يقول قائل أنه يوجد تسريبات لبعض الوثائق السرية الخاصة بوزارة الدفاع البريطانية.
وإذا كان هيكل حصل على هذه الوثيقة عن طريق تسريبات! فما هو رأي الأستاذ هيكل الخاص بالوثائق المسربة عموما؟
وللإجابة على هذا السؤال فسوف نقوم بعرض رأي الأستاذ هيكل عن الوثائق المسربة وذلك من خلال مقال له بجريدة الأهرام يوم 21 / 5 / 1965 تحت عنوان بصراحة، عن وثائق مسربة من وزارة الدفاع البريطانية عام 1965 إلى مصر ويدعي هيكل أنها وثائق خاصة بخطط بريطانية لغزو ليبيا والأردن ولبنان والكويت، وقد اتهم فيها الجاويش البريطاني بيرسي سيدني آلن «أمين المحفوظات بوزارة الدفاع البريطانية»، يقول هيكل في مقاله:
«هذه مقدمة يقتضيها الإنصاف للذين وضعوا الخطط الإستراتيجية البريطانية في الشرق العربى، والذين رسموا عملياتها في كل مكان منه، وبذلك منحونا الفرصة النادرة لكي نطل من الداخل على أفكار بريطانيا ونواياها ومقاصدها وأساليبها في وضوح كان يستحيل تأكيده بغير الوثائق التي تتضمن هذه الخطط السرية، وهي الوثائق التي سلمها الجاويش البريطاني بيرسي سيدني آلن أمين المحفوظات في وزارة الدفاع البريطانية -أجزل الله عطاءه- وبسببها حكم عليه بالسجن عشر سنوات -أعانه الله عليها-!!
ففي المحكمة:
يقول على الفور: مذنب يا سيدي.
ثم يحاول الدفاع عن نفسه بأنه اضطر إلى ما فعل تحت ضغط ظروف، وأن زوجته كانت مريضة بالسرطان وكان علاجها يحتاج مالا، وفكر واهتدى وذهب هو بنفسه يحاول الاتصال بمن قد يرغبون في الحصول على معلومات منه.
وهكذا وصل -على حد قوله- إلى مكاتب الملحقين العسكريين العراقي والمصري!
ورد الاتهام بإبراز تقرير طبي يثبت أن زوجة «آلن»» ليست مريضة بالسرطان أو بغيره!
مهما يكن فلقد كانت التفاصيل من «أولد بيلي» شحيحة لأن المحاكمة كانت سرية إلى أقصى حد.
أخيرا. عرف أن المحكمة استمرت من يوم 12 إبريل إلى10 مايو الحالي، حيث صدر حكم أذيع فعلا بالسجن لمدة عشر سنوات على «بيرسي سيدني آلن».
يجيء المشهد الثالث والأهم في القصة المثيرة.
وثائق الخطط العسكرية لوزارة الدفاع البريطانية التي حوكم وأدين «بيرسي سيدني آلن» بتهمة تسليمها.
ولست أريد أن أتبرع بشهادة كان يمكن أن تدين الجاويش البريطاني، لولا أن «آلن» دخل السجن فعلا لعشر سنوات!
من هنا فلست أرى حرجا من أن أقول: إن «بيرسي سيدني آلن» سلم فعلا مجموعة من الوثائق السرية لوزارة الدفاع البريطانية!
ثم لا أتحرج بعد ذلك أن أقول أن هذه الوثائق السرية وجدت طريقها إلى القاهرة.
وإن كان لا بد أن أضيف في هذا الصدد أن «بيرسي سيدني آلن» سلم الوثائق لغير هؤلاء الذين قيل إنه سلمها لهم.
لقد وصلت إلى القاهرة فعلا ولكن عن غير طريق الملحقين العسكريين لمصر والعراق.
تلك على أي حال شكليات لم تعد لها الآن قيمة.
القيمة الآن كلها في الوثائق السرية.
قبل الوثائق التي تكشف الكثير مما يجري في الشرق العربي أو يدبر له فإن هناك ملاحظة أولية.
لقد كانت هناك نظرة بالتساؤل إلى هذه الوثائق عندما وضعت للمرة الأولى تحت الفحص في القاهرة.
وكان هناك قولان فيها.
– قول يرى بأن الوثائق قد تكون مزيفة، قد تكون حادثة من حوادث تزييف الوثائق التي تخصصت فيها مكاتب مريبة من الجواسيس المتقاعدين لم تبق لهم على المغامرات همة فلجأوا إلى التزييف ووجدوا له سوقا رائجة خصوصا من سويسرا.
وحتى إذا لم تكن هذه الوثائق من تزييف مكاتب سويسرا المريبة، فلقد تكون مدسوسة من وزارة الدفاع البريطانية نفسها.
وثائق مصنوعة لهوى معين وقصد يراد الإيهام به.
لا يعقل -في هذا القول- أن يجيء بيرسي سيدني آلن بمثل هذه الوثائق. بمثل هذه السهولة.
ولا يعقل أيضا أن يطلب فيها -ممن طلب منهم- هذا الثمن الزهيد نسبيا كما طلب!
هي وثائق إذن من وزارة الدفاع.
لكنها ليست أصلية، وإنما مصنوعة أغلب الظن ومدسوسة.
ذلك أسلوب معروف، وقد اتبعته المخابرات البريطانية أكثر من مرة للتغطية والخداع.
وهناك قصة شهيرة في الحرب العالمية الثانية لجأوا فيها إلى هذا الأسلوب حين دفعوا بجثة أحد ضباطهم من فتحة غواصة مع تيارات بحرية تحمله إلى شواطئ أسبانيا بعد أن وضعوا في كيس خفي داخل ملابسه مجموعة من الوثائق المصنوعة تشير إلى أن غزو الحلفاء المنتظر لأوروبا سوف يكون من الشاطئ الفرنسي الجنوبي، بينما كانت خطة الغزو الحقيقية على وشك أن تبدأ من الشاطئ الشمالي.
وكانت وجهة نظر المخابرات البريطانية التي نظمت الخديعة ووفرت لها إمكانيات علمية دقيقة، أنه حينما تظهر جثة الضابط البريطاني على الشواطئ الأسبانية فإن المخابرات الألمانية سوف تعرف المسألة بالقطع وسوف تصل بالتفتيش إلى الوثائق المصنوعة وسوف تبعث بها إلى برلين وهناك تتأثر بها هيئة أركان الحرب العليا للجيش الألماني.
وذلك حدث فعلا.
– القول الثاني كان يرى بأن الوثائق صحيحة، كل ما فيها يشهد بصحتها، ولا يجب أن يهون من خطورتها سهولة الطريقة التي جاءت بها ولا الثمن الزهيد الذي دفع فيها.
مرة ثانية ففي الحرب العالمية الأخيرة وصلت إلى بعض الأطراف فيها وثائق مذهلة عن الطرف الآخر وخططه وترتيباته. ووصلت بمنتهى البساطة وبلا ثمن.
نموذج مشهور لذلك عملية «سيسرون» التي جرت وقائعها في أنقرة عاصمة تركيا حين طرق باب السفارة الألمانية ذات مساء رجل قدم نفسه على أنه الخادم الخاص للسفير البريطاني في أنقرة السير «كنوتشبال هيوسن».
وقال الرجل إنه يحمل معه أفلاما تصور أخطر الوثائق الحربية البريطانية، وأنه صورها بنفسه، بعد أن وضع مخدرا في عشاء السفير البريطانى الذي يعيش وحيدا في قصر السفارة فلما نام أخذ مفاتيح خزانته الخاصة وفتحها وراح يصور ما فيها من وثائق.
هذا هو رأي الأستاذ هيكل عن الوثائق المسربة! فمن أين جاء هيكل بوثيقة وزارة الحربية البريطانية رقم (45 / 418 / 16) التي يدعيها؟
ثالتا: أيضا عرض الأستاذ هيكل وثيقة صادرة من المخابرات العسكرية البريطانية (وثيقة ج ه 517) إلى وزارة الخارجية البريطانية، توصي فيها بأن تقوم الحكومة المصرية باتخاذ سلسلة من الإجراءات تجاه بعض المصريين الذين يستغلون ظروف الحرب للمطالبة باستقلال بلدهم.
طبعا هذه الوثيقة مصطنعة وساذجة للغاية، لأن المطالب الواردة فيها، كانت تنادي بها علنا كل الأحزاب السياسية وأيضا السياسيين المستقلين بالإضافة للملك فاروق. فهذه المطالب معروفة جدا لكل المسئولين الإنجليز والقادة العسكريين، فهي لاتحتاج توصية من الاستخبارات العسكرية البريطانية ولا تدخل في مجال تخصصها، غير أن المطالب المصرية ليست بالخطورة لكي تهتم بها الاستخبارات العسكرية البريطانية، كما أن تنفيذ هذه المطالب سوف تكون بنهاية الحرب وليست أثناء الحرب حتى تهتم بها وزارة الحرب البريطانية.
وفي هذا الموضوع سوف نكتفي هنا بعرض رؤية وتصورات حزب الوفد لتحديد موقف إنجلترا تجاه مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وذلك من خلال مذكره تقدم بها إلى السفارة البريطانية الزعيم مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد، للتدليل بانتشار هذه المطالبات بين السياسيين المصريين، وهذه المطالبات ليست حالة خاصة جدا أو سرية للغاية لكي تهتم بها الاستخبارات العسكرية البريطانية.
ففي بدايات عام 1940نشط حزب الوفد لتصدر الصف الوطني ومطالبة بريطانيا بتحديد موقفها من مصر، فقدم مصطفى النحاس باسم الوفد والهيئة الوفدية البرلمانية إلى السفير البريطاني في أول أبريل 1940 مذكرة تتضمن عددا من المطالب.
بدأت المذكرة بإثبات إخلاص الشعب للحليفة، في وقت شدتها وللديمقراطية في إبان محنتها، حفيظا على شرف العهد، غير متردد في أن تقوم مصر بواجبها كاملا رغم تكاليف هذا الواجب وأعبائه بل وأخطاره، وذلك برغم الانقلاب الدستوري في ديسمبر 1938الذي أقصي فيه الشعب وحكومته عن إدارة شئون البلاد، والذي باركته الحليفة واستغلته لصالحها، رغم أحكام المعاهدة في نصها وفي روحها، لذلك ما كاد الوضع الدولي يضطرب وتبدو في الأفق نذر الحرب، حتى أعلن رئيس الوفد أن مصر تمد يدها إلى الشعب الحليف، وأن واجب الشرف يقضي على كل مصري أن يعضد الحليف ويشد من أزره، وأن يتجنب كل مناوءة تعتبر طعنا في ظهره، ذلك كان ولا يزال موقف الشعب المصري ومسلكه، وقد تحملت مصر الأمة الصغيرة وتتحمل عن حليفتها الكثير من أعباء الحرب وأوزارها، ما كاد يودي بمرافقها وينقض ظهرها إذ فقدت الميزانية توازنها ونفذ الاحتياطي الحكومي وأصبحت البلاد تعاني أزمة مالية تقرب من الكارثة.
وقد ألمحت المذكرة إلى أن بريطانيا لم تقدر لمصر ما قامت وتقوم به، بل بالعكس حاولت استغلال الظروف القائمة فوضعت العقبات
في وجه تصدير محصول القطن والحاصلات الأخرى، ولم تشتر محصول القطن بل عرضت شراء جزء منه بسعر منخفض، وفي مقابل قبول نظام الحصص الذي يضر بالاقتصاد المصري، كما حاولت أن تحول البنك الأهلي المصري وهو بنك إنجليزي إلى بنك مركزي للدولة، يضاف إلى ذلك أن بريطانيا هي التي طلبت إعلان الأحكام العرفية، مما أفسح المجال لاستغلالها من جانب الحكومة القائمة ضد إرادة الشعب، حتى أصبح المصريون في عهد الاستقلال وكأنهم آلة عمياء، صماء لا يسمع لهم صوت في تصريف شئون بلادهم، ولا يدرون إلى أي مصير هم مسوقون، بل ولا قدرة لهم على الشكوى مما هو إليه مسوقون.
وأشارت المذكرة إلى ما ترتب على ذلك، وهو الحالة الخطيرة التي صارت إليها البلاد، وهي بعد لم تستهدف إلى الخطر الأكبر الذي قد يكون رابضا على أبوابها، وإلى الخوف من استهداف المحالفة المصرية البريطانية، إلى أزمة روحية خطيرة بدت ويا للأسف بعض بوادرها بين أفراد الشعب المصري، بل وامتدت إلى غيره من الشعوب العربية والشرقية.
لذلك فإن الوفد المصري، يطلب إلى بريطانيا أن تحدد موقفها منا، وأن تقوم هي من المحالفة وتنفيذها بالنصيب الذي قمنا به، وذلك بالاستجابة إلى المطالب التي تقدم بها وهي:
أولا: أن تصرح الحكومة البريطانية الحليفة من الآن أنه، عندما تضع الحرب الحالية أوزارها، ويتم عقد الصلح بين الأمم المتحاربة، تنسحب من الأراضي المصرية القوات البريطانية جميعا سواء في ذلك القوات المعسكرة قبل الحرب أو بعدها، وأن تحل محلها القوات الحربية المصرية، على أن تبقى المحالفة فيما عدا ذلك قائمة بين الطرفين بالأوضاع المبينة فيها، وقد استند الوفد في ذلك إلى استحالة بناء ما نصت عليه المعاهدة، بالإضافة إلى ما أصبح عليه الجيش المصري من قوة بعد زيادة عدده وتسليحه، مما يجعله قادرا على أن يحل محل القوات البريطانية المنصوص عليها في المعاهدة، كما أن ما قام من تعاون بين الجيش المصري والبريطاني وبين الأمتين لا يتفق مع بقاء قوات بريطانية في مصر.
ثانيا: عند التسوية النهائية بإذن الله، يجب أن يكون مصر طرفا فيها، وأن يكون لها اشتراك فعلي في مفاوضات الصلح للدفاع عن مصالحها والعمل على تحقيق أغراضها معنوية كانت أو مادية.
ثالثا: بعد انتهاء مفاوضات الصلح، يجب أن تدخل إنجلترا ومصر في مفاوضات يعترف فيها بحقوق مصر كاملة في السودان لمصلحة أبناء وادي النيل جميعا.
رابعا: فيما يختص بالأحكام العرفية المعلنة الآن في مصر بناء على طلب الحليفة، نطالب الحليفة بالتنازل عنها تنازلا تاما وإخطار الحكومة المصرية بهذا التنازل، وما من شك في أن الحكومة البريطانية إذا ما أعلنت تنازلها عن مطالبها بصدد الأحكام العرفية، لم تجد الحكومة المصرية مسوغا لإبقائها، وأصبح الأمر فيها على أي حال بين الحكومة المصرية والشعب المصري يفصلان فيه ويسويان حسابه.
خامسا: لفتت المذكرة نظر الحكومة البريطانية، إلى خطورة تصرفاتها في المسائل الاقتصادية والمالية مثل مشكلة القطن ونظام الحصص والبنك المركزي.
وقد ختم الوفد مذكرته بأن هذه هي مطالب الديمقراطية المصرية إلى حليفتها الديمقراطية.
فمذكرة حزب الوفد تدل على أن هناك مطالبات كثيرة من أطراف سياسية مصرية، تدعو إلى وضع حد للتداخل في العلاقات بين مصر وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، مما يدلل بأن وثيقة هيكل المزعومة لاقيمة فيما جاء بها. والاحتمال الأقوى أنها مصطنعة.
أخيرا: ما هو هدف هيكل من نسجه لكل هذه الأقاصيص الخيالية؟؟
بالطبع الأستاذ محمد حسنين هيكل كان يهدف من وراء كل هذه القصص، إظهار ضعف الحكومات الملكية المصرية أمام الجبروت البريطاني، مما يبرر حدوث انقلاب 23 يوليو 1952، معتمدا في ذلك أن الشريحة التي سوف تقرأ هذه القصص غالبا لاتبحث ولا تستقصي عن حقيقتها، غير أن آراء هيكل وحكاويه دائما ما تجذب الجهلاء.
وللحديث بقية إن شاء الله
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست