إن التراثَ هو مزيجٌ من الفكر والقيم والمبادئ والتقاليد الأصيلة التي توارثها شعب أو تواترتها أمة، حتى أصبح تراثها هذا مكوّنًا لبنائها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وتُعد مسألة التراث من المسائل التي تأخذ مساحة لا بأس بها من اهتمام المفكرين والأدباء، ولقد كان هذا التراث على مر السنين أقوى من الإنسان في صموده أمام تحديات التخلف والضياع.
لا يُنظر للتراث على أنه الماضي تمامًا، أو أن الانتماءَ له بمثابة انسلاخ عن الحاضر أو استلاب عقلي عن الواقع، بل إن ممارسته وتعزيز حضوره في الثقافة يُعد تأكيدًا على قيم ومبادئ ثابتة، ساهمت في بناء وصقل البنية «الأبستمولوجية» للإنسان، وجعلت لكيانه خصوصية مميّزة يُعرف بها. كما أن الشعوب أو الأمم الأكثر محافظةً على تراثها تجدُها الأحرص على الاستمرار في دفع الحاضر، ضمن سلسلة الإبداع باتجاه المستقبل.
لقد كتب «د. عبد المُحسن الدالاتي» حول طبيعة علاقتنا المُفترضة مع التراث, فقال: «لن تمتد أغصاننا في العصر حتّى نُعمّق جذورنا في التراث», وهو هنا يُشير إلى حالة التداخل والتشابك بين منجزات وموروث أية أمة وتطلعاتها لأن تتصدّر مكانة مرموقة.
وعندما تذكر التراث الفلسطيني يخطر على بالك الثوب الفلسطيني المُطرّز الذي يُسجّل الأفراح الفلسطينية في كل لون من ألوانه, ويُبرز الكد والتضحية من أجل الأرض والإنسان على طول التاريخ الفلسطيني, وتُمثّل الأزياء الشعبية الفلسطينية أهمّ شواهد المأثور الشعبي الحاضر في معظم البيوت الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها, كجزءٍ من الهُوية الثقافية والتاريخية, ورمزًا اجتماعيًا يرصد ملامح تمسُّك الإنسان الفلسطيني بأرضه.
وحينما تسمع جملة «على الطريقة الفلسطينية», فهي تصف الطابع والخصوصية الفلسطينية, التي ينفرد بها الشعب العربي الفلسطيني, في ظروفه الاجتماعية والثقافية.
لقد حدّثونا الآباء والمعلمين عن فنانين مثل «أحمد مدنيّة» عندما كانت تُتاح له الفرصة للتنقّل بين أجزاء الوطن الجريح, ويأتي ليُغنّي في الأفراح الفلسطينية, ويُحيي الحفلات التي تعكس حروفها ملاحم بطولية قائمة من أجل الحرية المسلوبة, والأرض المُغتصبة.
وتحنُّ أسماعنا للّحن الأصيل الذي يتشكّل تحت أصابع الفنانين, ولمواويلهم العذبة, مواويل الميجنا والأووف والعتابا, التي تُذكّر الفلسطيني بعبق التراث ونكهة الأصالة العصيّة على الشطب أو السلب.
وعند الإنصات لهذا الزجل الشعبي والأغاني التراثية, يحتويك التأثّر وتجد نفسك وسط الحنين للأرض المعطّرة بدماء الأبطال, هذه الدماء التي روت الزيتون, وجَعَلَتْهُ يُثمِر زيتًا أصيلًا, يُثير فينا تمسّكًا أقوى بهذه الأرض, ويُعطينا شعورًا عميقًا ومفعمًا بالانتماء، ودافعًا في سبيل التضحية.
لقد أدرك الشعب العربي الفلسطيني أن التشبث بهذا الأدب يُعد حفاظًا على الهُوية الوطنية والشخصية الفلسطينية, التي تتحدّى محاولات الطمس والنهب, ومحاولات التشويه لكل شيء جميل فيها.
وقد يشعر الإنسان في لحظاتٍ ما بالضعف, كالوقت الذي تشحّ فيه البطولات, ويزيد معه القهر, فيبدأ الاستنجاد بالتراث الشعبي, ليتّكئ عليه ويتخذه مُلهِمًا ودليلًا لاستبدال الهزائم بالانتصارات, وقطع الطريق على اليأس, وإحلال الأمل والطموح بالوقوف عند عتبات العز والبهجة.
وتعتبر القصص والروايات الشعبية صانعة أحلام الفقراء والبسطاء, فلقد كانوا يثقون في الأبطال الذين تُحيي أعمالهم هذه الروايات, فيختارهم الناس ليقتدوا بهم, ويستلهموا من جبروتهم القوة القاهرة للظلم.
وتتوارث النصوص من جيلٍ إلى جيل, وفي كل مرة يُعالج شاعر «الأرغول» نصّه الشعري أو ملحمته الشعبية بطريقة مختلفة, حسب جمهوره أو المنطقة التي يسرد أبياته فيها, ليُعيد التوازن لهم بين واقعهم القاسي, وخيالهم الفاضل.
وفي الحقيقة, لا يكفي إدراك التراث وأهميته في الحفاظ على وجود الشعب أو الأمة, وإنما ينبغي تعلّمه وتدارسه وتذوّقه, وجعله جزءً من المناسبات الاجتماعية والوطنية, كذلك العمل على نقله للأجيال المتعاقبة.
ورغم كل محاولات السلب والتشويه والإقصاء التي يتعرض لها رموز التراث الفلسطيني, فإنها لا تعدو كونها ارتدادات في إطار الضعف والهزيمة, لا تأثير لها, أمام التحام الجهود المتّصلة القائمة على الاعتزاز بأصالة التاريخ والحضارة.
ويُعبّر التراث عن ذاتيةْ وخصوصية الوطن, التي تجمع كل أبنائه حول ألوان معروفة, ومُقدّرات يجدر الاعتزاز بها, وهُوية مشتركة, وحضارة ترصد مراحل تطوّر الشعب وقضاياه الوطنية. لذلك فإن الالتزام نحو التراث يُعدّ التزامًا وطنيًا وواجبًا دينيًا وقوميًا, وإحياؤه إعلاميا وشعبيًا متطلبًا روحيًا يُقام في إطار الأدبيات الوطنية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
تراث