«عصرُ العقليات»: هكذا هو عنوان عصرنا الحالي، أقصى ما تدعو له المذاهب الفكرية الهدّامة إعمال العقل والعقلانية، وأقصى ما يمكن للضّال حين يُلجم بالحجة والبيان أن يطرح سؤالًا: «أقنعني بالعقل!» وهو في الأصل يقصدُ «أقنعني بما يوافق هواي»!
ولأن ظاهرة الإلحاد اجتاحت ضِعاف القلوب من شبابنا، كان لِزامًا على دعاة المسلمين أن يتفطنوا لهذا الأمر حتى يُشخصّوا سبب مرضهم (مرض الإلحاد) ليجدوا وصفة علاجٍ بشكل صحيح، وكما يقول نيل ليفن مؤسس علم النفس التعليمي: (التوصيف السليم يؤدي إلى كتابة العلاج السليم). [1]
وممّا يلفت النظر أن كثيرًا ممن التحقوا بركب [مرض الإلحاد] ضلوا في باب عظيم عميق، ألا وهو باب (الحكمة الإلهية)، وكتعريف موجز للحكمة الإلهية: فهي الغاية الحكيمة التي تُبنى على أفعال الله في أوامره وتشريعاته وسننه الكونية، وهذه الحِكم قد تظهر للعباد، وقد تخفى، وكثيرًا ما تخفى ابتلاءً من الله واختبارًا ليُميز الخالق بين المسلِّم لأوامره والجاحد بها.
لكن القوم لم يستوعبوا الحكمة الإلهية أشد استيعابًا، فتجد كثيرًا من الناس ألحدوا لأسباب متعلقة بموضوع (الحكمة الإلـهية)، ومشكلة الشر نموذجًا، وشبهة لماذا خلقنا الله، وشبهة لماذا الله لم يخلقنا في الجنة مباشرة، وهو موضوعنا في هذا المقال، حتى نُزيل اللبس، ونُحكِّم الأمور في نصابها.
ونقصد هاهُنا بأنهم لم يستوعبوا الحكمة الإلهية: أي أنهم لم يثقوا بحكمة الخالق وأنه [هو الحكيم العليم]، فكانت ردة فعلهم نفسية، إذ جهلهم بالحكمة أقض مضجعهم نتيجة ضعف إيمانهم وعدم تدبرهم لأسماء الله وصفاته وما إلى ذلك.
وليس ببعيد على القرآن الكريم، نجد سؤال الملائكة – الاستفهامي وليس الاعتراضي – (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فقال الله عز وجل بعدها: (إني أعلم ما لا تعلمون)!
فتأمل: فنحن والملائكة عقولنا قاصرة، محدودة، لا تحيط بحكمة الله المطلقة، ولم يفسر الله عز وجل للملائكة بل أنبأهم بأنه هو العليم المحيط بكل شيء، وقال ﴿لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون﴾ أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه.
وقبل الخوض في قواعد التعامل مع هذا الأمر دعنا نتفق أولًا على أن من يثق في حكمة «الخالق» لن ينتهي به المطاف كما ينتهي بهؤلاء الملحدين، فمثلًا لو سلَّمتَ ابنك المريض لطبيب جراحة من أحسن وأشهر الأطباء عالميًا ليقوم له بعملية جراحية، فخلال هذه العملية أنت لن تقول للطبيب مُعترضًا: «لماذا أعطيته هذه الجرعة، لماذا غرزت الإبرة هنا»! لكن قد تسأل مُستفهمًا من باب المعرفة لكنك تبقى على يقين أنّ الطبيب بارع في عمله، على النقيض من ذلك تجد الملحد إذا دخل في باب (الحكمة الإلـهية) ووجد ثغرة بين (عقله البشري القاصر) و(الحكمة الإلـهية) يقع له «Error» فيُنكر وجود الله، ويتناسى – أو يجحدُ ويغفلُ – أن حكمة الله إن جهلناها فذلك لقصور عقولنا، بل الأصل: أننا نلتمس حكمة الله، إن ظهرت لنا، فهذا يقوي إيماننا، أما إن خفيت علينا، فذلك لقصور عقولنا، نسلم لها كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون﴾، ونعود هنا لمثال الطبيب الجراح، إذا أخبرك مثلًا سبب استعماله للمُخدر (البَنْج) وذلك حتى لا يشعر ابنك بشيء أثناء العملية، فإن قلبك يطمئن لهذا لكن إن لم يخبرك فإنك تُسلم له بسبب براعته وإتقانه لعمله. وهذا التفاوت ليس بعيب إطلاقًا، إذ هذه الفجوة منطقية جدًا نجدها بين البشر: «عقل الرجل الكبير، ليس هو عقل الطفل الصغير، فالصغير قد يلعب بالأدوية، وعندما يقوم الكبير بنزعها منه يبدأ بالبكاء»، هذا بالنسبة للبشر فيما بينهم، فما بالك بين (العقل البشري القاصر) و(حكمة خالق الكون والمجرات)؟
إذًا فمشكلة المشكك مشكلة «أساس» = أنه لم يُكوِّن لنفسه أساسًا وعكازًا يتوكأ عليه.
وهذا الأساس يمكن تلخيصه كالتالي:
– جهلك بالحكمة الإلهية لا يعني عدم وجودها فعدم الدليل ليس علمًا بعدم المدلول[2]، لأن عقلك محدود، وقدرتك محدودة. ولا يصح عقلًا أن تحاكم بها الخالق «مطلق القدرة» وهنا يأتي دور التسليم، وعدم اتباع الهوى، وعدم الاغترار بالنفس.
– هناك تشريعات يلزم منّا التسليم والخضوع المحض لها سواء علمنا الحكمة منها أو جهلناها. مثلًا: عدد ركعات صلاة الظهر أربع، فلا أحد منا يعلم بالضبط الحكمة من عدد هذه الركعات، وعليه يكون التسليم الكامل والخضوع المحض هو السبيل في ما نملك.
عودةٌ للشبهة الشهيرة التي تطرح على ألسنة الملاحدة «لماذا خلقنا الله؟» عنما ترد عليه بقوله عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، يقول لك: «وهل الله يحتاج لعبادتنا؟» فكانت الفاجعة – هاهُنا – أنه تعامل مع الخالق الحكيم «الكامل» بنفس التعامل مع المخلوق «الناقص» الذي يفعل الشيء لأنه يحتاجه. لقد أجبناه على «الغاية من الخلق» ولكن «الغاية من الغاية» هو أمرٌ إن لم نعلم به، فلا يعني أننا نرفض الغاية! لأن الغايات لها تسلسل محدد، أي: أنه هناك نقطة معينة لا نسأل عن الذي بعدها، ونطرح مثالًا هاهُنا لتقريب الفكرة: لو سألتني: لماذا توظفت؟ فسأجيبك: لأحصل على المال. طيب، لماذا تريد الحصول على المال؟ سأجيبك: لكي أعيش. لماذا تريد أن تعيش؟ سأجيبك: أريد أن أعيش لأعيش! فهُنا قد وصلنا لحد هذه الغاية! لكن الملحد – لأنه اعتاد على اغتصاب المنطق – يقول لك: لم تقنعني صراحة، لماذا تريد أن تعيش؟
وعلى أي هذه الشبهة سنتناولها بتفصيل في مقال مُستقل.
أيها المسلم، اعلم – حفظك الله – أن الحكمة الإلهية تنوطها كثير من القواعد تعتبر جزءًا من عقيدتك، وبين يديك قواعد هامة في التعامل مع غالب الإشكالات حول موضوع الحكمة الإلهية، إذا تأسست عندك فقد نجوت من اضطرابات نفسية إلحادية قد تؤدي بك للانتحار:
1- قال تعالى: (وهو الحكيم العليم) وقال سبحانه: (وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق) وقال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا). فالحكمة من صفات الله تعالى الذاتية، وأفعاله وأوامره لا تكون إلا موافقة لحكمته.
2- أن الحكمة الإلهية قد تظهر لنا، وقد تخفى علينا، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم، ولك في إيمان أمنا عائشة رضي الله عنها موعظة، عندما سئلت عن النساء في الحيض يقضين الصوم ولا يقضين الصلاة، قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة).
3- الإسلام يدعو للأدب مع الله عز وجل، فلا يصح أن نسأل عن أفعال الله وأوامره «لم؟» أو «كيف فعلت؟» بل نسأل -تأدبًا مع الله – «ما الحكمة من كذا؟» وبالتالي جواز التماس الحكمة من أفعاله بغرض الزيادة في الإيمان، فإن جهلناها فالعُمدة على القاعدة الأولى.
4- قاعدة رد المتشابه للمحكم عندما لا ندري الحكمة من أمر مُعين، مثلًا إذا وجدنا شيئًا في الكون لم نعلم الحكمة من وجوده أو استُشكِل علينا وجوده من الأصل، فالواجب ردّ هذا الأمر للمُحْكَم، أي الضبط في التصميم والحكمة في التقدير، ومثال ذلك، إذا اشتريتَ هاتفًا من شركة مرموقة لها سمعة جيدة جدًا كشركة «آبل» مثلًا، ولكن وجدتَ زِرًا لم تستطع التوصل للغاية من وجوده، هل يعني أن الغاية من وجوده معدومة؟ أم أنك تثق في سمعة الشركة وأن لذلك الزر مهمةً يقوم بها فقط قلة علمك هي السبب في عدم إدراك الغاية منه؟ أكيد القصور منك.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

[1]: نقلًا عن د. هشام عزمي في كتابه (الإلحاد للمبتدئين) ط: الثالثة – صـ 26.
[2]: الصفدية – لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني – ج1 – ص180.
عرض التعليقات
تحميل المزيد