في عام 1756 رغبت إحدى سيدات المجتمع الفرنسي الأرستقراطيات المركيزة دي شاتليه أن تقرأ تأريخ العالم وكان الفيلسوف الفرنسي فولتير صديقًا للماركيزة وذلك ما سهل عليها أمر تحقيق رغبتها .
فكانت الماركيزة تطرح عليه الأسئلة وهو يجيبها بإسهاب .
لم يكن من المتوقع أن يكون لتلك الأسئلة بعد قرنين من الزمان أن تصبح مدرسة فكرية تأريخية وتيارا معرفيا فرنسيا غير النظر إلى التأريخ والدراسات التأريخية وعُرفت باسم “مدرسة الحوليات” التي تأسست في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين منطلقة من نفس تلك التساؤلات لتقدم الأجوبة عنها بمنهج آخر.
شهدت الكتابة التاريخية تطورا كبيرا، من حيث الرؤية والمنهج والأسلوب، خلال القرن العشرين في أوربا، وبخاصة في فرنسا، اصطلح على تسميتها بـ”التاريخ الجديد”. ومن أهم ما أفرزه هذا الاتجاه خروج التاريخ من دائرة التخصص الضيق والكتابة للمشتغلين في التاريخ وحدهم، للانفتاح على جمهور عريض من القراء.
فأصبح المؤرخ يكتب للجميع، وأصبح الجميع يقرأ للمؤرخ، بل إن أفكار الباحث في التاريخ لم تعد تصل إلى المتلقي عبر الكتاب فقط، وإنما أيضا عبر مختلف قنوات الاتصال، من صحف وإذاعات وتلفزيونات. كما أصبح يساهم في كل النقاشات، من النظري المحض إلى المعيش اليومي، من تطور العلوم إلى الأسعار، مرورا بالانتخابات والهجرة والعنصرية والبيئة والإعلام. فأصبحت المقاربة التاريخية حاضرة، معبرة، مؤثرة، والثقافة التاريخية نافعة، شائعة، ذائعة.
لقد استطاع مؤرخو الحوليات أن يجعلوا من موضوعاتهم ومقارباتهم تاريخا جديدا لأنهم عرفوا كيف يُسوِّقوا هذا التاريخ، كيف يوصلوه إلى عامة الناس، كيف يجعلوا منه قضية انفتاح وفضول وإحساس. فبفضل الأسلوب والتواصل تمكن كثير من الباحثين في التاريخ تمرير خطاب يفهمه الجميع ليس فقط عبر الكتب والمقالات، ولكن أيضا عبر الصحف والإذاعة والتلفزيون.
فكثير من هؤلاء كانوا يكتبون في جرائد كبرى مثل لوموند ولونوفيل أوبسيرفاتور، ويُنَشِّطون برامج إذاعية هامة مثل برنامج “إثنين التاريخ” الذي أدار حلقاته جاك لوغوف على أمواج إذاعة فرانس آنتير.
وهناك أيضا مثال جورج دوبي الذي كان على رأس قناة تلفزيونية ثقافية في بداية التسعينيات. واليوم توجد قنوات كثيرة تعنى بقضايا التاريخ والمعرفة التاريخية يشاهدها المتخصص وغير المتخصص. هذا بالإضافة إلى الحضور القوي لرواد الحوليات في دور النشر الكبرى في فرنسا مثل غاليمار و فلاماريون من خلال السهر على سلاسل هامة مثل “مكتبة التواريخ” و”الإثنولوجيا التاريخية”.
وقد ركزت هذه المدرسة على دراسة البنى الاقتصادية والاجتماعية والمادية والجغرافية والديمغرافية قبل أن تهتم بأي شيء آخر. في الماضي كان علم التاريخ التقليدي يتحدث عن سير الملوك والعظماء والسلالات الحاكمة والأحداث السياسية والمعارك العسكرية.
ولم يكن يهتم كثيرا بدراسة بنية المجتمع من وجهة نظر مادية أو جغرافية أو اقتصادية، إلخ.
أما الآن فقد انعكست الآية وأصبح الموضوع الأول لعلم التاريخ هو هذه البنى التحتية بالذات. فإذا لم نفهم اقتصاد بلد ما، أو جغرافيته، أو موقعه الاستراتيجي، أو موارد إنتاجه ورزقه، فإننا لن نفهم شيئا عن هذا المجتمع. وبالتالي فالبنى المادية للمجتمع هي الأهم تليها بعدئذ البنى الفكرية والثقافية.
لقد اهتمت مدرسة الحوليات بدراسة المشاكل الأساسية لا الأشياء السطحية الظاهرية. فمثلا راح لوسيان فيفر يطرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يكون الفرنسي ملحدا في عصر رابليه، أي في القرن السادس عشر؟
وكان جوابه بالنفي. ففي ذلك العصر كان الإلحاد بشكل ما ندعوه باللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. ثم راحت مدرسة الحوليات تطرح هذا السؤال: لماذا لم تكن فرنسا في أي عصر من العصور القوة الاقتصادية الأولى في العالم؟
وذلك على عكس إنجلترا أو حتى هولندا.
و من أهم المحاور الذي جاءت بها مدرسة الحوليات أن التأريخ يجب أن يكتب بشكل كامل، أي تأريخ شامل بحسب عبارة فيفر و بلوخ. ماذا يعني بالتأريخ الشامل و الكامل؟
أي يجب أن لا تقتصر كتابة التاريخ على الأشكال السياسية و الدبلوماسية و العسكرية. ومن الضروري أن يغطي التأريخ الجوانب الأخرى، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية، التي غالبا ما يتناساها المؤرخون. بطبيعة الحال كانت هناك معاناة كبيرة في إقناع مؤرخي وأنصار المدرسة التقليدية أمثال سينيبوس ولافيس بإعادة كتابة التاريخ على أسس وأفكار جديدة كليا عن تلك المتبعة من قبل.
لكن كتاب لوسيان فيفر (معارك من أجل التأريخ) أحدث ثورة في مفهوم كتابة التاريخ وأصبح مرجعا يقتدي به أنصار مدرسة الحوليات.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست