إن الوضعية المنطقية رؤية حول الفلسفة، ظهرت في الغرب في بداية القرن العشرين، وكان هدفها اتخاذ موقف من المعرفة العلمية وحدود البشر تجاهها، وكان المفكرون قد تبرموا من فلسفات أمثال هيجل وهيادغر وما فيها من عناصر ما بعد الطبيعة مما اكتنهه طبقات مكتثة من الضبابية في التعبير والتفكير. فلا بد أن نتخذ في عين الحسبان قبل النظر في الأسس التاريخة النقاط التالية:
1: أن الوضعية المنطقية رافضة لما بعد الطبيعة، وأن القضية المعتد بها هي التجريبية أو المنطقية، لا ثالث لهما.
2: وأنها تقصر مهمة الفلسفة في التحليل.
3: وأن كلمة ما بعد الطبيعة (أي الميتافيزيقا) إذا ما وردت في سياق الوضعية المنطقية، فهي لا تقتصر على فرع الفلسفة الذي يعرف بها، بل هذه الكلمة ظلة لكل ما يجتاز اختبار المعنوية الذي نسجه أنصار الوضعية المنطقية. فهي تشمل ما يعرف في علوم الفلسفة بما بعد الطبيعة، كما تشمل النزعة الموضوعية في علمي القيم والجمال مثلا.
المبحث الأول: سقراط والتحليل
لعل سقراط أول من اضطلع بهذه المهمة مهمة التحليل، فكان يأتي الناس ويسألهم عن أفكارهم خاصة ما كان منخرطا إلى القيم والأخلاق، ثم يأخذ ينبش عما وراء الأفكار من الأسس المبنية هي عليها واحدا تلو آخر حتى يصل بهم إلى أس الأسس الذي ليس وراءه شيء. فإذا سألهم عنه، امتغض الناس حيث لم يحيروا جوابا. وهذا هو ديدن الناس أنهم يغضبون إذا ما نوقشوا فيما أثل عقائدهم من الفروض المطلقة. ستنجلي هذه النقطة عندما نتعرض لكانت والتحليل عنده. ولكن ينبغي أن يقرع العصا هنا وينبه إلى أنه لم يكن من أسلاف الوضعية المنطقية بمعنى رفض ما بعد الطبيعة. بل إنما من حيث إنه من أشد الفلاسفة صلة بالتحليل الذي لا معتبر غيره في المذهب الوضعي المنطقي.
المبحث الثاني: هيوم وشوكته
قال ديفيد هيوم:
«لنمسك بأيدينا – مثلا – كتابا في علم الكلام أو كتابا مقررا فيما بعد الطبيعة لنر: هل فيه استدلال تجريدي متعلق بالكم أو العدد؟ فإن لم يوجد، فلنر: هل فيه استدلال تجربي متعلق بما له تحقق في العالم الخارجي، فإن لم يوجد، فلنجعله حطبا، فإن فيه حينئذ إلا سفسطة ووهم.»
قال ديفيد هيوم هذه الكلمة في معرض الرد على أصحاب نظرية الأفكار الفطرية. وهي أساس للميزان الذي تزن به الوضعية المنطقية معنوية القضية. فإن القضايا عند هيوم على حسب «شوكته» فئتان: فئة متعلقة بما في الواقع الملموس المشاهد، وأخرى مرتبطة بعلائق الأفكار.
الملاحظ أن مصطلح «شوكة هيوم» صاغه الفلاسفة من بعد هيوم.
المبحث الثالث: فيتغنشتاين
[«فيتغنشتاين» (26 أبريل، 1889 — 29 أبريل 1951) هو فيلسوف نمساوي، ولد في 26 أبريل، 1889 لبيت ثري في فيينا، كان أبوه مالك مصانع، وكان نشيطا، وتلالأ نجما في سماء صناعة الحديد والفولاذ. كان بيته معروفا بالفطنة والدهاء، وكان شغوفا بالموسيقا، وكانت أمه عازفة عن براعة وإتقان. سافر صاحبنا فيتغنشتاين إلى برتراند رسل ليتتلمذ عليه.]
فيتغنشتاين وضع رسالة بعنوان «رسالته في المنطق والفلسفة» تعد حجر الأساس في هذه النزعة. لقد قرر في رسالته تلك إن هذه القضايا التي ترميها الوضعية المنطقية في سلة المهملات ليست غير ذات معنى فحسب، بل اللغة تعجز عن التعبير عنها مهما حاولنا واجتهدنا. لا بد قبل أن نتقدم من التلويح إلى أن فيتغنشتاين لم يكن بنفسه وضعيا منطقيا، ولكن كثير من أصحاب هذه النزعة جعلوه لأنفسهم إماما، وقرروا أن ما قام به هو عين ما هم مقبلون عليه.
عصارة ما قال فيتغنشتاين في كتابه ذلك أن الإنسان حينما ينطق ويطلق لسانه، فهو يجلو الظروف التي تحيط بشيء موجود، ويراعي مع ذلك ما يسري في لغاتنا من البنية المنطقية. فكلما نعبر عن حقيقة، عبرنا عن شيء تجريبي يساير هيكلا منطقيا. فهنا ذكر أمرين: المنطق والتجربة، وهما قطب رحى الوضعية المنطقية. وهذا هو ما في منظومة الوضعية المنطقية من تطابق القضية مع مبدئي التحليل والتركيب.
فجوهر ما يقول فيتغنشتاين هو أن اللغة لها حدود وتخوم، فالكلام ذو المعنى ما تقيد بها ولم يتعدها. وما إن تجاوزته كلمة، إلا فقدت معنى وكانت خاوية جوفاء مهما كانت، سواء من مجال الجماليات كانت أم من مجال ما بعد الطبيعة أم من ميدان القيم والأخلاق. وقال:
«هذه الأمور التي لا تقدر اللغة على تحملها، إنما تتجلى وتبدي نفسها في الأمر الواقع، فالإنسان يستطيع أن يشعر بها، ولكنه ليس في متناوله أن يقيدها بقناصة اللغة. فهي من العالم الروحي.»
وهذا أيضا يعرف بتمييز فيتغنشتاين بين القول والظهور. فمن الأمور ما يظهر ولا يمكن التعبير عنه. فمهمة الفلسفة تشبه دلالة الذبابة على الخروج من المصيدة. فالذبابة رأت في المصيدة طعاما، فدخلت فيها، ووقعت فيها. فنحن مثل الذباب وقعنا في مصيدة اللغة معبرين عن القيم وما بعد الطبيعة والجمال، وبقينا حيارى، لا نعرف القبيل من الدبير في شأنها. فشأن الفلسفة أن تدلنا على الخروج منها.
لعلك أيها القارئ الكريم تكون لاحظت شدة الشبه بين ما قرره فيتغنشتاين وما قررته الوضعية المنطقية. وهذا كان السبب وراء تقديم التعريف بالنظام قبل التعرض للجذور التاريخية.
المبحث الرابع: التقدمات الهائلة في مجال العلوم التجريبية
ثم نستطيع أن نعود بجذور الوضعية المنطقية إلى التقدمات الهائلة في مجال العلوم الطبيعية من نحو النسبية المطلقة وميكانيكا الكم والخطوات الحثيثة التي خطتها الطبيعيات في كشف عالم ما تحت الجزيئات. فساد الانطباع آنذاك أن الفلسفة قد أدت دورها، وانتهى شأنها واستغنينا عنها. فبدأ عهد العلوم التجريبية. فالعلوم الآن تأخذنا بأيدينا إلى فهم أحسن وأعمق وأقرب إلى الصواب للعالم وللقضايا الشائكة. أما الفلسفة فهي أضحت جارية للعلوم، وهي في الذيل بعدما كانت في الرأس. فمكانة الفلسفة في عصر العلوم مثل ما كانت في العصور الوسيطة، حيث كانت الفلسفة خادمًا للدين.
ملحوظة:
الفلسفة والتحليل عند كانت
إن من أهم أسلاف الوضعية المنطقية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، وله أهمية كبرى في التحليل الذي هو جوهر الفلسفة عند الفيلسوف الوضعي المنطقي، وكذلك له بصمات واضحة في الفرقة بين عبارة تحليلية وأخرى تركيبية. وهذه الفرقة هي أحدى الدعائم التي قامت عليها الوضعية المنطقية. فرأينا حريا به أن يخصص له بيت مستقل في دار أسلاف الوضعية المنطقية.
إن كانت عرف بالتحليل، فالفلسفة عنده قبل كل شيء تحليل. نلاحظ أن كلمة «نقد» شديدة الحضور عند كانت، حتى غدت جزءا من عدة مؤلفاته، مثل «نقد العقل الخالص»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد الحكم». وليس المراد بالنقد إلا التحليل. فلنقبل على عناصر النقد والتحليل عنده:
الفروض السابقة
الفكرة الجوهرية التي يدور حولها نقد كانت هي الفروض السابقة. ولنر ما حقيقتها ثم ما صلتها بالتحليل!
كل عبارة، يعبر بها عن خبرة حسية أو فكرة عقلية، تتضمن سؤالا سابقا. فإذا نظرت إلى ساعة أمامك وقلت: «الساعة الآن الحادية عشرة»، كان هذا القول جوابا عن سؤال مقدر هو قولنا: «كم الساعة الآن؟». ولكن هذا السؤال بدور يتأبط سؤالا آخر وفرضا آخر، والسؤال هو قولنا: «لم صنعت هذه الساعة؟» والفرض أن الساعة صنعت لقياس الزمن. ولكنه يتضمن فرضا آخر وهو أن من الأشياء ما له غاية.
والملاحظ هنا أن السامع إذا سمعك تقول هذه العبارة، ساغ له أن يسألك عن سببها، ثم يصدقك أو يكذبك على حسب اعتقادك، ولكن الفروض التي يبنى عليها قولك صدقا أو كذبا، لا تخضع لمعايير الصدق والكذب.
فكل ما خضع لتلك المعايير، سمي حقيقة، وما لا، سمي فرضا. لعلك تكون قد لاحظت أن الأمر يمكن أن يكون فرضا فيما فوقه، وحقيقة فيما تحته. فما دام الفرض قابلا يأن يسأل عن سببه، فهو فرض نسبي، وإذا وصلت إلى النهاية التي لا تستند إلى شيء وراءها، فاعلم أنها فرض مطلق.
قطب رحى البحث هنا أن الفرض المطلق لا يسأل عن سببه. ليس لأنا لا نجد عنه جوابا عند التنقيب، بل لأن السؤال عنه يؤدي إلى تناقض منطقي: فإنا إذا قلنا فرضا أنه مطلق، فقد سلمنا أنه لا يعلل بسبب وراءه، ثم إذا رحنا سائلين عنه، كنا بصدد البحث عن سبب وراءه، وهذا تناقض واضح.
فالتحليل هو جوهر التفكير العلمي. فإذا كنت باحثا في مجال، فالأسئلة التي تثيرها والترتيب الذي ترتب به تلك الأسئلة هما ضمان المبحث المنتج. فلا يكفي أن نفك الفكرة إلى عناصرها، بل لابد من تحديد رتبة كل منها. فإذا ما سألت صاحبك وقلت: «هل أقلعت عن ضربك لزوجك؟»، فهذا السؤال منك مع عاديته وعدم تعقده يتضمن فروضا مترتبة كما يلي:
1. أنه لا يزال صاحب امرأة،
2. وأنه يعتاد ضربها،
3. وأنه كان تزوجها.
هذا ما تؤكده الفلسفة الوضعية المنطقية وتشدد عليها. فإن مهمة الفلسفة هي الكشف عن الفروض الكامنة المترتبة سواء ألمفكر كانت أم لجماعة من أصحاب الفكر أم لعصر. وإن حصرنا ما بعد الطبيعة في هذه المهمة، فهي على الرأس والعين عند الوضعية المنطقية. فإن كان عبارة عن المحاولات التأملية التي تدعي أحكاما إيجابية فيما لا يقع تحت الحس، فإنت يا ميتافيزيقا لا مرحبا بك.
وهذا ما قام به عمانويل كانت بقضايا العلم
كانت والبحث عن منهج لما بعد الطبيعة
كان السائد منذ ديكارت أن العلوم ثلاثة: الرياضة وعلم الطبيعة وما بعد الطبيعة. فلاحظ كانت أن الرياضة قد كانت قائمة على أرض صلبة منذ أيام اليونان وأن علم الطبيعة استقام عوده بعدما احتضنه جاليلو بأن رواه بماء رويته في عهد النهضة الأوروبية. ولكن ما بعد الطبيعة لا يزال على أساس متهافت متهدم. فأخذ على عاتقيه أن يوجد له أيضا منهاجا واضحا مثل مناهج الرياضة وعلم الطبيعة.
فنظر كانت في الرياضة وما أقامها عليه مفكروا اليونان، فألفى أنها غير قائمة على مسائل جزئية عملية تصادف الإنسان في حياته اليومية، بل كانت طريقتها أن الرياضيين افترضوا فروضا وحبكوا مسلمات أولوية ونسجوا بديهيات ثم مخضوا اللوازم منها، وراعوا أن يكون البناء الرياضي منسجما ومتسقا بعضه مع بعض، ولم يقولوا شيئا حول العالم الذي حولهم. فإذا تحدثوا عن المثلث مثلا، لم يتحدثوا عن شيء معين مثلث الشكل، بل جردوا فكرة المثلث ولم يعبأوا بالسؤال القائل: «هل يوجد في العالم الخارجي من المثلث ما كان مثاليا يفي بالتعريف الذي تحدده الرياضة عن دراستها؟». فالمنهج هو افتراض الفروض ثم استخراج اللوازم مع رعاية ما بين الفروض ولوازمها من الانسجام والاتساق والاتفاق وعدم التعارض والتضارب والتدابر.
وهذا بعينه ما قال به جاليلو مع علم الطبيعة، حيث افترض فروضا ثم راح يجد لها تصديقا أو تكذيبا في التجارب التي قام بها العلماء. فكأنه استجوب الطبيعة كما عبر عن هذا العمل بحق «فرانسيس بيكون». فعلمنا أن القانون الضروري الشامل لا يكشف عنه إلا العقل. أما الطبيعة فتأتي لاختبارها.
نستطيع أن نعبر عما سبق من مناهج الرياضة وعلم الطبيعة بأنهما يقرران أهدافهما قبل بدء السير، فلا يتخبطان خبط عشواء، ولا يتسكعان في بيداء غواية.
فقرر كانت أن على المعتني بما بعد الطبيعة أن يخطو نفس الخطى، أن يفترض فروضا، ثم يشمر عن ساعده لبخرها بأن يلقي عليها أسئلة بانتظام واتساق
فهذا ما حاول كانت في كتابه «نقد العقل الخالص». فإنه قرر في مستهل كتابه أنه يضع جانبا موضوعات ما بعد الطبيعة – وهي عنده ثلاثة: الله والحرية والخلود – ويشتغل ينقد الرياضة وعلم الطبيعة، ويقبل بعدئذ على تشييد بناء ما بعد الطبيعة على غرارهما، ولكنه لم يقبل عليه. فلما سئل عن ذلك، أجاب بأن نقد قضايا الرياضة وعلم الطبيعة هو ما بعد الطبيعة، وأطلق عليه اسم «التحليل النقدي». هذا هو بيت القصيد في معرض حديثنا عن الوضعية المنطقية التي تقرر أن الفلسفة وما بعد الطبيعة لا يقبل منهما إلا ما كان من باب التحليل.
أما الموضوعات الثلاثة التي بدأ بذكرها كتابه من باب ما بعد الطبيعة ووعد بأنه يقبل عليها بعد الفراغ من الرياضة وعلم الطبيعة، فلم يقل في شأنها شيئا، فإنها وإن كانت مهمة – في نظر كانت – غير مستغنى عنها، ولكنها خارجة عن حدود البحث النظري العقلي العلمي. فالبحث عما بعد الطبيعة في نفسه ممكن، ولكن العقل النظري المكبل بقيود من الحواس والمنطق لايقدر على إدراكه.
الطريقة النقدية عند كانت
التحليل النقدي عند كانت لا يبدأ بالشك فيما نعلمه عن العالم الخارجي، بل ينطلق كانت بقبول ما يقول الناس. ثم يبحث عن الشروط الأولية التي أتاحت لهم أن يعرفوا ما يقولون. إيضاح المراد بهذا أن القضايا عندنا نوعان:
1. النوع الأول هو القضية الابتدائية التي تصور واقعة من وقائع العالم الخارجي، مثل قولنا: «الغربان سوداء»
2. النوع الثاني هو القضية الثانية التي تقرر علم الناس بالقضية الابتدائية، مثل قولنا: «الناس يعلمون أن الغربان سوداء». فهي تصور موقف البشر المعرفي موقفا من حقيقة معينة.
نحن في ساحة منهج كانت التحليلي النقدي نقصر أنفسها على القضايا الثانوية. فحديثنا حول المعرفة لا حول الوجود.
ثم معارف الناس على تنوعها وكثرتها تنضبط بمضبطين: مضبط التجربة ومضبط غير التجربة.
القضية البعدية: فما سبيله التجربة، فهو «بعدي». فالقضية البعدية ما يتعلق بالتجربة.
القضية القبلية: وما كان سبيله غير ذلك، فهو «قبلي». فالقضية القبلية ما يربأ عن التجربة، ثم كل من هاتين إما تحليلية وإما تركيبية.
القضية التحليلة: ما لا يضيف المحمول أو الخبر فيها شيئا إلى موضوعها الذي يعبر عنها في علم النحو بالمبتدأ. مثل قولنا: «المثلث ذو ثلاث قوائم». فالمثلث بحكم تعريفه له ثلاث قوائم. فإنا لا نضفي على حقيقة المثلث شيئا، حينما قررنا أن له ثلاث قوائم. فهي من باب تحصيل الحاصل.
القضية التركيبية: ما يضيف المحمول أو الخبر فيها شيئا إلى موضوعها. مثل قولنا: «الغراب أسود». فالغرابية لا تقتضي بطبيعتها السواد، بل نخطو خطوة أبعد من ذلك ونقرر: أنه يوجد في العالم من الغراب ما ليس أسود. (ويضرب في بلادنا الناطقة بالأردية مثلا لمن ينكر البديهيات أن غرابه أبيض. ولكن الحقيقة أن من المناطق ما غرابه أبيض.)
فالقضايا الثانوية التي تعود إلى موقف الناس المعرفي أربع:
1. القضية القبلية التحليلية. مثل قولنا: «الأجسام ممتدة». فهي تحليلية؛ لأن الجسم عبارة عن الامتداد. فهذه القضية لا تضيف شيئا جديدا إلى الموضوع. وهي قبلية؛ لأنا نحكم حكما كليا، ولا تقع تحت مشاهدتنا إلا الجزئيات. فإنك لم تر ولم تلمس إلا هذا الجسم وذلك الجسم. أما الجسم بصفة عامة فغريب عن مجال الحس.
2. القضية القبلية التركيبية. مثل قولنا: «المعادن تتمدد بالحرارة». فهي تركيبية؛ لأنها تضيف شيئا جديدا إلى الموضوع. وليس من تصور المعادن التمدد والتمطط. وهي قبلية لنفس السبب الذي مر في مثال القضية القبلية التحليلة.
والجدير بالذكر هنا أن قضايا العلوم من هذا القبيل. وكانت هذه القضايا هي شغل كانت الشاغل وهمه الهام.
3. القضية البعدية التحليلة مثل قولنا: «هذا الجدار أبيض». فجلي كونها بعدية بأنها تتعلق بواقعة جزئية حسية، ولكن يشتبه كونها تحليلية بما أن البياض ليس جزءًا من تصور الإنسان، فكأن القضية تضيف شيئا جديدا إلى الموضوع. ولكنها على كل حال تحليلية. والسبب أن الموضوع هنا ليس «الجدار»، بل «هذا الجدار». وتعيين الجدار باسم الإشارة يتضمن جميع الصفات المشاهدة التي يتصف بها، مثل طوله وعرضه ولونها وما إلى ذلك. فقولنا: «هذا الجدار أبيض» تحليلي غير تركيبي.
4. القضية البعدية التركيبية مثل قولنا: «هذه الشجرة مثل تلك في الأوراق عددا». وأمرها واضح.
فلا إشكال في القضية التحليلية التي لا تضيف إلى رصيد معارفنا شيئا. ولا إشكال كذلك في القضية البعدية التركيبية التي تضيف إلى رصيد معارفنا شيئا، ومصدره الحس.
ولكن الإشكال كل الإشكال في القضية القبلية التركيبية التي منها قضايا العلوم:
1. فإن تركيبيتها تقتضي أن تعتمد على الخبرة الحسية؛ لأن العقل بطبيعته لا يضيف إلى رصيد علمنا شيئا إلا إذا كان محاطا بالحس، وتقتضي كذلك أن تكون جزئية، لا كلية ولا ضرورية.
2. ولكن بعديتها في الجانب المعاكس تتطلب أن تكون شاملة وضرورية. (ومعنى الضرورة أنه يستحيل أن نلفي من المعادن – مثلا – ما لا يتمدد بالحرارة.)
فمن أين جاء هذا الشمول وهذه الضرورة للقضايا البعية التركيبية التي منها قضايا العلوم ونحن لم نشاهد إلا حالات جزئية؟ فهنا يقرر كانت أن هذا من الفروض الأولية في العلوم.
قبل أن ننثني إلى ما ينشق عند كانت عن الوضعية المنطقية طريقا، يقمن بنا أن نقرر
1. أن فلسفة كانت تحليلة؛ لأنها تحلل أحكام الناس الكلية التي يقولونها في العلوم وفي الحياة اليومية تحليلا إلى ما هو بعدي مستمد من التجربة وما هو قبلي غير مستمد منها وهو متوكأ على مبادئ عقلية.
2. وأنه سميت متعالية؛ لأنها تتناول القضية الكلية، فتنبش عنها وتتوغل في قعرها ليستخرج ما كان فيها من مبادئ عقلية؛ كأن فلسفته تحفر البناء التجربي المتمثل في القضية لتصل إلى الأس الخفي من مبادئ العقل.
3. وأن النقد عند كانت هو استخراج المبادئ العقلية المشتركة في تكوين أحكامنا العلمية التي فيها شمول وضرورة. وهذا الاستخراج هو الكشف وليس إقامة برهان، بل البرهان منصب هنا على العبارة التي نحللها، فإذا عثرنا على المبدأ الذي ترتكن إليه القضية، قلنا: «إنها تأيدت بالبرهان».
المبحث الرابع: اختلاف الوضعية المنطقية عن كانت
لا شك أن ما مر أساس لما يبني عليه أصحاب الوضعية المنطقية، ولكنهم يختلفون عن سلفهم كانت فيما لا يقل عن أمرين:
1: أن قضايا العلوم الطبيعية عند كانت ضرورية، ولكنها في الوضعية المنطقية وفلسفة العلوم الحديثة تخمينية واحتمالية.
2: وأن الوضعي المنطقي يرى أن قضايا ما بعد الطبيعة خالية من المعنى وصاحبنا «كانت» جنح إلى أنها ذات معاني، ولكن العقل البشري عاجز عن دركها مثل عجز العين عن درك الأصوات. فاستحالة إدراكها مردها عند كانت نفسية الإنسان وانحسار قدرها عن دركها، وعند الوضعية المنطقية طبيعة القضايا نفسها بحكم طرائق استعمالنا للغة. ويرد أنصار الوضعية المنطقية على موقف كانت بأنه ضرب من التناقض. فإنك إذا اعترفت للعقل بحدود، فمن أين لك أن تثبت أشياء، تخرج عن نطاق العقل. فإن إثباتك لوجودها دليل على أنك بعقلك ولجت في تلك المنطقة التي قد بدأت بأن حرمتها على العقل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست