لا بُد مِن دِراسة أُمور ثَلاثة دِراسة مُسْتَفيضة لتَنْظير اِنْقِلاب جَذري في أُمَّة مُكبَّلة بمُعوَّقات النُّهوض: التَّاريخ والواقِع ومَنْهَج التَّغْيير. غير أن تَفْسير التَّاريخ وفَهْم الواقِع وتَحْديد مَسار الحَرَكَة الاِنْقِلابيَّة يتطلَّب مَنْهَجيَّة قائِمة على عَقيدة يؤْمن بها أصْحابها، فأي عَقيدة ينبغي لنا أن نؤْمن؟

قد يَكون مِن البَديهي للمُتَديِّنين – وأعْني بهم مُعْتَنِقي الأديان وليس المُلتزِمين مِنهم فحَسْب كما هو شائِع الاِسْتِخدام – أن تكون عَقيدتم الدِّينيَّة هي تلك العَقيدة المُوجِّهة لحَرَكتهم الاِخْتياريَّة، وعليه فإن المُسلِمين عَقيدتهم المُوجِّهة هي الإسْلام. لكن بَوْنًا شاسِعًا بين البَديهي المُفْتَرَض والواقِع الَّذي نعيشه، والَّذي يعنينا الآن مِن ذلك أن هذه الأوضاع الفاسِدة نِتاج لخِلاف الإسْلام.

هذا الأمر الجَلي يُنبِّهنا إلى مُغالطة ساذِجة يقع فيها أصْحاب التَّوجُّه العَلْماني مِن المُنْتسِبين إلى الإسْلام؛ فالمَفروض أن يكون الإصْلاح بالعودة إلى الإسْلام لا بعزله أكثر، لأن الحاضِر الفاسِد الَّذي نعيشه يبدأ – والتَّاريخ يشهد – مِن اليوم الَّذي اِبْتَعَدنا فيه عن مَنْهَج الله. أضف إلى ذلك أن السِّياق التَّاريخي لنشْأة العَلْمانيَّة في مَهْدها الأوَّل يختلِف تمامًا عن مَثيله في بِلاد المُسلِمين، فالدِّين الَّذي جابهته الدَّعْوة العَلْمانيَّة هو النَّصرانيَّة “المُحرَّفة”، والبِلاد الَّتي قامت فيها تلك الدَّعْوة هي بِلاد “أُوروبَّا”، والواقِع المَرير الَّذي عاشته أُوروبَّا في ظِل الهَيْمَنَة الكَنَسيَّة لم يكن له وُجود في بِلاد المُسلِمين يوم أن كانت الشَّريعة الإسْلاميَّة حاكِمة.. نعم؛ حَدَثت مَظالِم في التَّاريخ الإسْلامي، إلَّا أنَّها لم تصل إلى تلك الفَظائع والأَهْوال الَّتي عاشتها شُعوب أُوروبَّا حَتَّى جعلتها تُنحّي الدِّين ورِجاله عن واقِع الحَياة، فَضْلاً عن كَوْنها – أي المَظالِم – اِنْحِرافًا عن مَنْهَج الإسْلام، وليست نِتاجًا له كما هو الحال مع دِين أُوروبَّا المُحرَّف.

الأَهم مِن ذلك أن أنْصار المَذاهِب العَلْمانيَّة بدَعْوَتهم تلك يُغالِطون أنفسهم ويجهلون حَقيقة دِينهم المُنْتسِبين إليه.

أمَّا مُغالطتهم لأنفسهم فلأن مِن مُسلَّمات العَقْل عَدَم الجَمْع بين المُتناقِضات، وهُم يقولون أنَّهم مُسلِمون وكذلك عَلْمانيُّون، فتسمع أحدهم مَثَلاً يقول “الرِّبا ضَرورة اِقْتِصاديَّة”، في حين أنَّه لا بُد وقد سَمِع قَوْله تَعالى {الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لاَ يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن ربِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ومَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فهل هُم كاذِبون في قَوْلهم أنَّهم مُسلِمون أم سُفَهاء فلا يُسْمَع لهم؟!

وأمَّا جَهْلهم بدينهم فلا رَيب فيه، ولكن لا يُقال ذلك فيما هو مَعْلوم مِن الدِّين بالضَّرورة، فهذا قَطْعًا هَوى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

إذًا فالمَنْطق يَقْتَضي أن تَكون الأُمور الثَّلاثة السَّالِفة الذِّكر – تَفْسير التَّاريخ وفَهْم الواقِع وتَحْديد مَسار الحَرَكَة الاِنْقِلابيَّة – مِن خِلال مَنْهَجيَّة إسْلاميَّة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد