مع ازدهار سوق ألعاب الفيديو والإقبال الكبير والمتزايد الذي تشهده من طرف المستهلك، بدأت هذه الصناعة الرقمية تدخل حيز اهتمام الدراسات الإنسانية، وأصبح اعتبارها مجرد أداة للهو والترفيه ولعب أطفال أمرًا مُتجاوزًا، بل صار من الواجب على العقلاء فهمها وتصنيفها وتحديد دائرتها كنشاط ثقافي مُميز لهذا القرن.
عنصر القصة والسرد في الألعاب جعل بعض النقاد يعتبرونها جنسًا أدبيًا يوازي القصة أو الحكاية ويعوض متعة حكاية الجدة في منتصف الليل من حيث الوظيفة الترفيهية، أما الجانب الجمالي من تصوير ثلاثي الأبعاد ومحاكاة الواقع بشكل بديع يجعل من الألعاب تخاطب الحس الفني نفسه الذي يتجاوب مع لوحات دافنتشي وأنجلو، جعل توصف على أنها أكثر أشكال الفن تطورًا عبر تاريخ الإنسان، حيث تجتمع فيها جميع العناصر الفنية من كتابة وصوت وصورة، وأيضًا المشاركة الفعالة للمتلقي (التأويل) في قالب واحد متجانس.. وهناك أيضًا من أردفها بالسينما وصناعة الأفلام بحكم توفر الكثير من الألعاب المقتبسة من أعمال سينمائية… إلخ.
قد تظل محاولات تصنيف ألعاب الفيديو على هذا النحو موضوع اختلاف وجدل، لكن ما اكتشفته شخصيًا بهذا الخصوص، هو أن ألعاب الفيديو عبارة عن أداة بيداغوجية جديدة لتعلم التاريخ، بل أراهن على أنها من الوسائل الفعالة التي ينبغي الالتفات إليها من طرف المتخصصين في صناعة المحتوى التاريخي عوض الاكتفاء بالكتابة التقليدية أو حتى صناعة الفيلم الوثائقي.
فعلى سبيل التجربة وأنا أُقلب بعض صفحات تاريخ المغرب القديم وتأثير الإمبراطورية الرومانية على سيرته، وجدت ذِكرًا لحدث اغتيال الإمبراطور يوليوس القيصر (Jules césar) عام 44 ق.م بعدما تآمر عليه بعض أعضاء مجلس شيوخ روما، وما كان لهذه الواقعة من أثر مباشر على أوضاع موريطانيا (المغرب الأقصى خلال ذلك العهد) على إثر توزع حكم الإمبراطورية بين اوكتافيوس وأنطونيوس… وجدت كل تلك الأحداث وأسماء الفاعلين فيها، وحتى وجوههم مألوفة لدي، وكأنه سبق لي وأن عايشت بعض أطوار هذه الحقبة من تاريخ روما، وهي محفوظة في جزء من مخيلتي وذاكرتي، لحظة اغتيال الإمبراطور يوليوس القيصر طعنًا بالسكين داخل رواق مسرح بومبي، تعيين أنطونيوس حاكمًا على روما من طرف مجلس الشيوخ، أوكتافيوس وشيشرون.
كلها مشاهد حية بدأت تلمع تفاصيلها في ذهني بمجرد ذكر إشارات عنها فيما كنت أقرأه، وذلك بفضل ما قضيته من ساعات طوال وأنا أستمتع وألهو مع لعبة Shadow Of rome، وأغوص في أحداثها الشيقة، حيث كنت أتقمص شخصية أوكتافيوس (بطل اللعبة) ابن أخ القيصر ووريثه الشرعي الوحيد بحكم التبني، والحقيقة أني كنت فاعلًا في مغامراته وهو يحاول تخليص صديقه فيسبونيوس أكريبا من تهمة اغتيال القيصر ويسعى إلى إثبات شرعيته لوراثة العرش لدى مجلس الشيوخ.. وأنا أتجول بين أروقة منتدى روما foro romano، ودار مجلس الشيوخ أسأل وأستفسر عن ملابسات اغتيال الإمبراطور، وأبحث عن أدلة تدعم قضيتي، كان قانون تحريك هذه الشخصية يحكمه الطابع الديبلوماسي من خلال الوسائل السلمية والسرية من حوار وتجسس وتفاوض، بينما على الجانب الآخر، كانت توجد شخصية القائد العسكري أكريبا الذي يظهر في البداية، وهو في مهمة عسكرية على الحدود الشمالية، يقاتل القبائل الجرمانية ببسالة، والذي سيتحول في مشهد آخر إلى مصارع غلادياتور على خلفية اتهامه في قضية القيصر، التحكم في هذه الشخصية كان يرتكز على الحركة والقتال والأكشن الذي يضفي متعة خاصة.. تنتهي أطوار اللعبة بمعركة أكتيوم البحرية 2 سبتمبر (أيلول) 31 ق.م بين قوات أوكتافيوس وجيش ماركوس أنطونيوس، وكانت المواجهة النهائية في اللعبة بين القائد العسكري لقوات أوكتافيوس أكريبا فيسبانيوس والمنافس على الحكم ماركوس أنطونيوس، حيث انتهت المعركة بانهزام الأخير وإقدامه على الانتحار من على ضفاف إحدى سفنه ليتوج أوكتافيوس أخيرًا إمبراطورا على روما.
في الوقت الذي اكتشفت فيه بأن معظم أحداث هذه اللعبة ومشاهدها تعبر عن وقائع تاريخية حقيقية (مع زيادة أو نقصان بغرض تطويع الحبكة الدرامية) بعدما اطلعت عليها مدونة في المراجع المكتوبة، ووجدت أن أوجه الشخصيات والأماكن والديكور واللباس كانت كلها محاكاة دقيقة للحقيقة تاريخية، شعرت وكأنني قد استفدت من حصة تكوينية استثنائية في مادة التاريخ حول هذه الفترة، حصة لا يوازيها إنصات شارد لتأتآت أستاذ داخل قاعة فصل كئيبة، ولا قراءة مُضنية لعشرات الصفحات من كتاب أغبر، بل هي جلسة ماتعة مرحة رفقة جهاز بلايستيشن ذكي ومحبوب.. بل يمكن الحديث هنا عن أداة بيداغوجية جديدة تمامًا تتلخص في التفاعل المباشر مع الحدث التاريخي والمساهمة في صناعته من خلال دخول غمار الواقع الافتراضي التفاعلي وإعادة صناعة الحدث عوض التلقي الأُحادي الجاف لدرس التاريخ الذي أثبت عدم نجاعته وجدواه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست