أيها تختار؟

ثلاث مصطلحات متداولة في الأوساط السياسية في مجتمعاتنا، غير متفقة الرؤية والتوجيه والمنهج، ظهر مفهوم العلمانية في البلدان العربية في القرن العشرين مفهومًا واضحًا وبارزًا، فإذا سألت النخب العربية عن فكرها وتوجهها سيقول لك إنه علماني، أو ليبرالي، أو يساري، أو اشتراكي، أو شيوعي، وغيرها من المصطلحات الكثيرة والغربية، كونها نوعًا من الوجاهة الاجتماعية والفكرية للمثقف العربي، وإذا سالته عن الدين في مفهوم الدولة، سيجيب عنك: لا دخل للدين في السياسة، إنما هذا تخلف ورجعية، وتجد صوته يعلو ووجهه يتغير، ويصفك بالجهالة، ولكن إذا سألته: هل تعرف كيف كان النبي رجل دولة ورجل سياسة؟ ستجده ابتعد عنك فورًا، وكأنك رجل من العصور الحجرية، ولكن إذا حدثته عن العلمانية ستجد السرور على وجهه وكأنه المنتصر صاحب السيف القاطع، ولكن إذا فجاءته ما هي العلمانية؟ لماذا ظهرت العلمانية؟ في أي قرن ظهرت؟ ما هي مراحل العلمانية؟ من هم مفكرو العلمانية؟ هل خصائص العلمانية ثابتة؟ وهل تتفق أهداف العلمانية وتصلح مع مجتمع مسلم؟ وهل في الإسلام مفهوم الدولة الثيوقراطية كما كانت في العصور الوسطى في أوروبا؟ ستجد هذا المثقف صاحب الوجه المسرور، احمر وجه وتلجلج لسانه، ولم يعرف عن العلمانية غير شيء واحد أن لا دين في السياسة، كأن هذه الجملة كل ما قرأه وفهمه عن العلمانية وعن الدين بدافع حب الوطن.

هل تعرفون لماذا هذا الضعف، أعتقد بأننا ليس لدينا نخب ومثقفون على أراضي الأوطان، لأنهم مصطنعون وموجهون كما كل شيء مصطنع، في ظل وجود أنظمة ديكتاتورية، تكره المثقف والواعي، لأنهما عدوان، ونقيضان لا يتقابلان، فتعرف الدول التي صنعت هذه الأنظمة قيمة المتعلم والمثقف الحقيقي، فتنهض لخطفه والاستفادة منه، وهي ما تسمى بهجرة نزيف العقول، لتظل تلك المجتمعات المليئة بالخير منهوبة، ويملأها الجهل والفقر والمرض، والمستفاد أصحاب المصالح، ولكن الشعب ما هو إلا جمهور يشاهد.

العلمانية مصطلح ظهر في أوروبا في العصور الوسطى، وذلك ليواجه مفاهيم الكنيسة ونظرياتها المتحكمة في كل شيء، سواء السياسة أو الاقتصاد أو العلم، وفقًا لمصالحها. وكأن الكنيسة الآن تشبه الأنظمة الحاكمة في الشرق ومثقفي الأنظمة، فالكنيسة كانت لديها قناعات خاطئة فأفقرت المجتمعات، في ظل غنى رجال الكنيسة باسم الدين، وهو ما يفعله المثقفون والأنظمة في الشرق، ولكن الفرق هنا باسم الوطن ومحاربة الدين. ولكن تطور العلم وثبت عدم صحة نظريات الكنيسة ومفاهيمها، فظهرت مفاهيم العلمانية، وزاد الصراع حتى ظهرت العلمانية بشكل واضح وبمنهجها في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في فرنسا، ثم إسبانيا، ومن هنا يمكن تعريف العلمانية (بالإنجليزيّة: Secularism) على أنها: هي عبارة عن مجموعةٍ من المُعتقدات التي تُشير إلى أنّه لا يجوز أن يُشارك الدين في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة للدول. ويرفض هذا النظام تدخل الدين في أي صورة من صور المجتمع، وانتشر في المجتمعات الأوروبية، ثم المكسيك، ثم تركيا على يد أتاتورك.

ولكن إذا أكملت سؤال المثقف العربي: أي مرحلة من مراحل العلمانية تتبع؟ فمن الممكن أن يضحك عليك، لأنه لا يعرف غير أن العلمانية لا تحب الدين، فتتأكد أنه مصطنع ومثل الحمار الذي يحمل أسفارًا، ولكن عليك أن تجاوبه، بأن العلمانية مرحلتان: الأولى -وهي المعتدلة- هي المرحلة التي ظَهرت في الفترة الزمنيّة بين القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد، واعتبرت أنّ الدين من الأمور الخاصّة في الأشخاص، وأنّ سلطة الدولة تكون مُطبّقة ضمن حدودها، ولكن يجب أن توفّر حمايةً للكنيسة، وخصوصًا في إطار جباية الضرائب.

واعتمد التفكير العلماني في المرحلة المُعتدلة على تأكيدِ الفصل بين الكنيسة والدولة؛ إلّا أنّه لم يتجاوز كلّ القيم الدينية المسيحية، وكان من مفكريها فولتير وجان جاك روسو، أما المرحلة الثانية -وهي المرحلة المتطرفة- وأُطلق عليها أيضًا مسمى الثورة العلمانية، وظهرت في الفترة الزمنية من القرن التاسع عشر للميلاد وما بعده، واعتمدت هذه المرحلة من العلمانية على تطبيق إلغاء كليّ للدين، ويسميها البعض المرحلة المادية، ومن مفكريها هيجل وماركس، وهي المرحلة التي انتشرت في المجتمعات العربية، من خلال الإعلام ومن خلال النخبة، ولا تصدق أن أنظمة كاملة تم استغلالها لنشر تلك الأفكار، ووهم الاستعمار أنه يحارب تلك الأنظمة، لأنها تخدمه وتنشر ما يريد بطريقة غير مباشرة، فاستبدلوا الدين بالقومية واللغة، وقيم الدين بالقيم الإنسانية، وهنا قول الله تعالى في مواضع عدة: «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ»، وقوله سبحانه: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، وقوله: «وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ».

ولكن لا يعرف هذا المثقف أن العلمانية كانت بابًا كبيرًا لاستعمار الشعوب ونهب ثرواتها، وذلك باسم التوسع والمادة والمنفعة، وقامت في وجودها حروب دامية بين البشر لسنوات وسنوات، منها الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وظهرت أفكار أيضًا متطرفة مثل النازية والفاشية؛ لأنها ألغت فكرة المبادئ واستبدلتها بفكرة المادة والمصلحة على حساب دماء الشعوب، هل يعرف المثقف الذي يعتبر الدين تخلفًا هذا؟ ولكن عندما تصبح الوطنية وظيفة ومكسبًا تجد الآلاف من الوطنيين، ولكن عندما تكون تضحية تجد القليل من المخلصين، هكذا تباع الأوطان في ظل نخب تحتاج أن تتعلم قبل أن تتكلم، فهؤلاء هم الرويبضة التي تتحدث في أمور العامة، فلذلك يكرهون الواعي والغيور على دينه؛ لأنهم يفتقدون مثل هذه المبادئ.

ولكن العلمانية، مثل الذي يبث السم في العسل، فهي تعمل على تخلي جميع المؤسسات والمجتمع عن دينه، بل لا تعترف به سبيلًا للتطور والنجاة، ومن سماتها عدم الوضوح والتخفي؛ إذ أصبحت العلمانية تجد مكانًا لها ضمن العديد من الكتابات، والمؤلّفات التي تستخدم لغة العلم المُتميّزة بالقوّة والعصرية، وتستخدم الإعلام والشخصيات في الدعاية لها، ولكن العلمانية ليس لها مكان في الشرق، لأننا ليس بحاجة إليها؛ لأن لدينا منهجًا متزنًا ولا يستطيع أحد تغييره، كما فعلت الكنيسة، ولأن الدين صمام أمان لحفظ المجتمعات من الهوا، وفساد الأخلاق، ولحفظ الحقوق، وضمان العدل والمساواة، فالدول من غير خلق لا شيء، وإنما تنهار إذ لم تغلف المجتمعات بغلاف الفضيلة والخلق والعلم، وهذا ما يطلبه الدين.

فالدين الإسلامي منهج دين ودولة، والدليل بناء النبي لمجتمع المدينة الذي كان يشبه وضعه وضعنا الآن، ولكن بناه النبي وعلمنا كيف يكون الدين نجاة من الذل والفقر، وحفظ للفضيلة داخل المجتمعات، ومصدر عزة وانتماء، فبنى المسجد بمثابة رمز للتعليم والتعبد والمشورة، ثم وضع الدستور صحيفة المدينة لحفظ حقوق الجميع، ثم وحد بناء المجتمع وهي المؤاخاة، ثم بنى الاقتصاد، ثم القوة العسكرية، فعلمنا التسلسل في البناء عندما تكون الدول ضعيفة ومنهارة، فالنتيجة من مجتمع المدينة، انتشر الإسلام من الصين شرقًا إلى الأطلسي غربًا، ولكن في ظل وجود الاشتراكية والقومية والعلمانية، ماذا حدث؟ شعوب فقيرة متناحرة يسرق خيرها غيرها، وأصبحت قطعًا صغيرة ينهش الكبير والصغير فيها، ولا قيمة لقرار لها، وإنما أصبحت ساحات للتناحر والقتال والجدال، والضحية الشعوب فسالت دماؤهم وجوعت بطونهم، بفضل هؤلاء النخب والأنظمة المزيفة.

فالرسول جاء بدين قيم فيه نظريات حكم وعلم وخلق، وضمن لنا العزة في طاعة الله ورسوله، ولكن اتبعنا الهوا وضعاف الفكر فأصابنا الوهن، فالرسول جاء بمنهج ليصلح للحكم وللعبادة، به أسس أعظم دولة وأعظم مدينة فاضلة هي مجتمع المدينة، ولكن إذا كان الدين لا يصلح لبناء دولة ما؛ فكان أولى بالنبي أن يدعو قومه فقط للدين، وإن لم يستجيبوا تركهم أو دعا عليهم فأهلكوا جميعًا، ولكن الدين جاء لإصلاح الناس لا لهلاكهم، جاء لخير الإنسان لا لفقره، جاء لحريته لا لعبوديته، جاء ليقرأ الإنسان ويتعلم ويعرف حقوقه لا يجهل ويشقى، فالدين من أعظم المناهج التي لو طبقت بنظرياته وبسيرة النبي لامتلكنا الدنيا شرقًا وغربًا، وإذا كنت تمتلك وطنًا واحدًا في ظل الدين سيكون لك كل دول المسلمين وطنًا، وبدلًا من الذل والفقر غنى ورخاء، ولكم في خلافات المسلمين عبرة، فالدين حصن للأوطان، وينادي بالكفاءة وبدولة مدنية في ظل مجتمع مسلم، قول النبي صلى الله عليه وسلم، حديث عبد الله بن عُمرَ رضي الله عنهما: «…وما عطَّلوا كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه، إلَّا جعَل الله بأسَهم بينهم» أخرجه البيهقيُّ في «شُعب الإيمان» (3315).

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد