يحدث أن تشرع في كتابة مقال ثم لا تدري بأي يابسة سيرسو بك القلم ..
يحدث أن تبدأ بخطّ الكلمات بمداد أزرق، فينتهي بك الأمر و أنت تكتب بدموع أمّة مريضة واهنة..
يحدث أن يعاندك قلمك و أنت تخطُّ كلمة “أملٍ” فيحوّلها غصباً عنك إلى “ألمٍ” يذبح الفؤاد و العِباد و البلاد ..
ربما اعتاد القلم أن يُحتَضن بين أيدٍ تُتقن مسح الدموع، و لطم الخدود، و كتم صوت الجموع.. أو ربما اعتاد القلم لغة النحيب و العذاب، أو أساليب الشقاء و البكاء، لكني مُتيقن أننا حين يتعلّق الأمر بالمواقف فقد اعتدنا الانحياز باندفاعية قاتلة، أو المعارضة بوحشية شرسة.. اندفاعية محمية بحصانة قصور السلاطين، و شراسة محاطة بصكوك رضا السلاطين.. لكننا نصبح مناضلين و مقاتلين حين يتعلّق الأمر بالحياد، نأبى ارتداء لباسٍ شفاف بدون ألوان حين يتعلّق الأمر بالحيادية، نعشق الدفاع عن الألوان و الأطياف و الإيديولوجيات، ثم نغيّرها بدون سابق إنذار وكأننا لم نتبنّاها يوماً و لم نكن مستعدّين لتقديم أرواحنا قرباناً لها، نحن كالحرباء نُغيّر ألواننا بما يناسب السطح الذي نعيش فوقه، ثمّ ندَّعي المثالية.
نحن جيل كُتِب علينا أن نعيش الحياة تُعساء وأشقياء، كُتِب علينا أن نعيش في حُضن أمّة أفاقت على العز و أمست مَغْمُوسَةً في الهوان؟ كُتِب علينا أن ندفع الثمن عن أولئك الذين باعوا الدين بالدنيا، و الوطن بالسلطان، و الحرية بالخيانة و الخذلان، وكأنه قدر مكتوب على جبيننا أن نعيش على أنقاض الماضي، أن نعيش و نحن مُثقلون برواسب التاريخ الجميل، و مُصفّدون بأغلال الحاضر الأليم..
احترنا على أي وطن نبكي ! أنبكي دمشق والشام التي كانت الرحم الذي أنجب الحضارة العربية ؟ أم نبكي العراق و بغداد عاصمة الثقافة الأسطورية ؟ أنبكي على تونس الخضراء التي احتضنت الموريسكيين والآن ضاقت درعاً بأبنائها وتقتل أولادها! أم نبكي أم الدنيا مصر والفردوس المفقود، الأندلس؟! أم نتجاهلهم هذا وذاك كما تجاهلنا فلسطين وقدس الطهارة، ثمّ نسبح في نهر التطبيع ؟!
أليس ظُلماً أن يُدرسونا في المعاهد و المدارس و الكليات أننا تاجُ الأمم و حلِيُّها، ثم نراهم يُقدمون الولاء و يُقبّلون الرؤوس و ينحنون احتراماً و اجلالاً لكل العالم ؟!
أليس ظلماً أن يرسموا خرائط الدول الإسلامية البائدة موحدةً في جميع المناهجِ ممتدةً من الهند فالسّند إلى المغرب فاتحة الطريق نحو عاصمة الأنوار باريس، ثم نعيش مقسّمين بين اثنين و عشرين دولة، تحكمنا فيها العصبية و القبلية مسجونين في مدننا الصغيرة باسم التأشيرة !؟ أليس العار أن يتوحّد العالم ونتفرّق نحن ؟!
أليس ظلماً أن تُعلّمونا المبادئ و القيم و الرجولة و الشهامة ثم تكونوا أول من يخون ؟!
أليس ظلماً أن تمزّقوا أُسراً جمعهم الله و الحب و فرقتموهم باسم قانون الجنسية ؟!
سنظلّ نحلم دائماً بوطن من مشرقِ الشام إلى مغرب الأندلس، سنحلم بالحدود تُمحى و بالخطوط الحمراء تتسع، سيظلّ الطفل الصغير بداخلنا يضحك فرِحاً بتاريخ أُمّته و أجداده، و ستظلّ تجاعيد الزّمن تحفر الحزن على وجهه وعلى حاضر هذه الأرض و هذا الجيل الذي كُتب عليه الشقاء.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست