(1)
داخل مقهى الحرية، اعتاد كل ثلاثاء أن يقضي ليلته، على كرسي في زاوية من زواياها، مديرًا ظهره لمرآة تُزيّن المكان من جميع الاتجاهات، حيث يشرب مشروبه المعتاد “ستلا”، ويقرأ صحيفته التي لا يلبث أن ينتهي من تصفحها حتى يشهر قلمه الحبر ويبدأ في رسم أحد وجوه المكان على أوراقها، مستعينًا بقطرات من “البيرة” وسبابته في توزيع خطوط القلم الحبر على الورقة لتوضيح الظلّ وتجاعيد الوجه وإتمام اللوحة.
فنان تشكيلي، وأحيانًا يُمارس النحت، هكذا عَرِفوه في الوسط. يملك من الأدوات والمهارة والحرفة ما يجعله فنانًا عالميًا من الطراز الأول، شريطة أن يعيش في دولة متحضرة تستوعب موهبته، ومجتمع واعٍ يتفهم أن الفن “مش أكل عيش”، وأن الفنان التشكيلي “مش نَقَّاش”.
يومها، وعلى غير المعتاد، ظلّ أحدهم يتابع خطوطه على الصحيفة من بعيد؛ عَرِفَ بعد ذلك أنه “سمسار” ألماني، يشتري الأعمال بـ”تراب الفلوس” من أصحاب الموهبة، مستغلاً حاجتهم للمال في دولة الفقر سيّدها – يا حبذا لو بالعملة الصعبة- ليبيعها بأضعاف الثمن في دولته أو أي دولة مجاورة تحترم الفن وتقدره.
انتظر الألماني حتى أنهى الفنان لوحته، واقترب منه بكرسيه ليقدم عرضًا مُغريًا من وجهة نظر مواطن لا يملك في جيبه سوى ثمن زجاجتين جعة، وعلبة سجائر سوبر لو اشتراها سيضطر للعودة سيرًا على الأقدام.
لم يستسلم الفنان سريعًا لعرض السمسار، لكن مع الضغط ورفع السعر اضطر لقبول العرض؛ وقتها أخبره الألماني بشرطه الوحيد “لا تضع عليها توقيعك”، ليقوم الفنان من على كرسيه فجأة بعد أن طوى صفحات الجريدة تحت إبطه، ونادى النادل.
حاول الألماني رفع السعر وهو يَشُدّ على يد الفنان ليجبره على الجلوس للتفاوض، وقتها صرخ الثاني في وجه السمسار قبل ترك المكان: “أنا ماببعش عيالي، فاهم؟.. أنا ماببعش عيالي”.
(2)
“أنا حمص حمص يا حلاوة”
(3)
10 سنوات أو أكثر يطوف “حُمص” أرجاء المدينة بحثًا عن خُرم إبرة نافذ ينقل صوته وألحانه إلى العلن، بديلاً عن آذان “المسطولين” الراغبة في موسيقى “الهشك بشك”، وأعين الطامعين في هزة وسط من جسد حبيبته “حلاوة”. كلاهما يحارب تفاهات المتلقي الساذج، المكتفي بالسخرية والهلس.
10 سنوات أو أكثر يحاولان إقناع العالم أنهما يملكان حلمًا وفنًا، لا مجرد نُكتة سخيفة ومنولوجًا عقيمًا ورقصة مثيرة تحفز رغبات المتلقي الجنسيّة المتعشمة في نظرة من “حلاوة” أو حركة لعوب من مؤخرتها تداعب نشوته.
10 سنوات في عناء البحث والانتظار، ويوم يتحقق الحلم يصبح لحنهم أكبر من أسمائهم، بعد أن سرقه وصولي جائر قرر أن يمنح نفسه – بمنتهى السهولة والاستهتار- بطولة مطلقة على أكتاف مُلّاك الحلم الأصليين، رافضًا حتى أن يمنحهم حقهم المادي فيما اختلسه، بعد أن سلب منهم حقهم المعنوي، وأملهم اليتيم.
لا يختلف كثيرًا عن سمسار لوحات ظن أن بأمواله وأفكاره التجاريّة ملك الأرض ومن عليها، ولو وجد الفرصة يومًا للحصول على مراده بالسرقة وبدون أي مقابل مادي لفعلها.
كحالِ أحد التافهين الذي قرر أن يمنح نفسه لقب دكتور برسالة مسروقة أو مدفوعة الأجر، وآخر أنتج لنفسه فيلمًا من بطولته وتأليفه وإخراجه، وثالث فتح قناة ومنحها صفة “دينية” وأصبح هو الداعية والشيخ والإمام. كـ”مزجانجي” الذي صدم زملاءه عندما قال لهم بصوت جهوري: “أنا اللي عاعبي الشريط بصوتي”.
(4)
ــ إحنا بنغنيها من سنين ياما
ــ سنين ولا أيام، إحنا أولاد النهاردة.. اللحن بتاع مين؟
ــ بتاعنا
ــ غلط، اللحن النهاردة ملك الشعب، ملك الجماهير، ملك الوطن
ــ طب أنا دلوقتي آخد حقي من مين؟ من الوطن!
(5)
الفنان دافع عن لوحته، وحُمص حارب العالم من أجل لحن. الاثنان أولاد هذه القريّة الفقيرة، معدومة الذوق والخيال، مع ذلك لم يترددا في أن يُثبتا وجودهما ويخبرا الجميع أينما وجدا أنهما أصحاب بصمة، ليس عيبًا فيهما أنك لم ترها أو تلمسها، ولا تقليلاً من موهبتهما أنك لا تعرف طريقًا للمتعة إلا بين أفخاذك.
الأول رفض أن يتحول فنه لسلعة رخيصة لا تحمل حتى اسمه، وحُمص فتح النار على متسلط وصولي، ووقف في مواجهة دانته ولم يخش قذائفها. وقف وأصابه ما أصابه، وخسر وكسب، وخسر مرة أخرى، لكن معركته لم تنته، وأحلامه لن تتوقف كعقارب ساعات المنتفعين الصدئة، كعقولهم.
هؤلاء قومٌ لا يمنعهم فقرهم من إثبات كرامة أو رفع قامة. لا يحني رؤوسهم، ولا يكسر ظهورهم المستقيمة. يعرفون تمامًا أنهم يملكون الأرض وما عليها بخيالهم وقدرتهم على إخراجه في لوحة أو مقطوعة، أو “غنوّة” تليق بثباتهم.
(6)
“بُكرة تجونا تترجونا علشان غنوّة أو موال”
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست