تشتعل الأوراق الصحفية بين الآن والآخر تنقل خبرًا جديدًا عما يحدث في مدينة هونج كونج والصراع القائم على هذه الأرض، وحينها أدرك فضل فصول التاريخ الصيني التي حضرتها في الجامعة، على الرغم من أنني لم أستمتع بها، وليس ذلك خطأ الحكاية وإنما خطأ الحكاء.

خطر لي أن أسرد هذا التاريخ مرة أخرى، ربما نرى وندرك مدى أحقية الصين في هذه الأرض، وما أبعاد الخلاف القائم، وما مدى صحة المزاعم والآراء المطروحة على المسرح السياسي.

التقسيم الإداري في الصين

يقوم التقسيم الإداري الحالي في الصين على أساس نظام أربعة مستويات: المقاطعات، والمحافظات، والمدن، والنواحي، واختصارًا فإن الصين مقسمة إلى مقاطعات ومناطق ذاتية الحكم وبلديات مركزية.

المقاطعات والمناطق الذاتية الحكم مقسمة إلى ولايات ذاتية الحكم ومحافظات ومحافظات ذاتية الحكم ومدن. المحافظات والمحافظات الذاتية الحكم مقسمة إلى نواح ونواح قومية وبلدات. البلديات المركزية والمدن الكبيرة نسبيًّا مقسمة إلى أحياء إدارية ومحافظات. والولايات الذاتية الحكم مقسمة إلى محافظات ومحافظات ذاتية الحكم ومدن. والمناطق الذاتية الحكم والولايات الذاتية الحكم والمحافظات الذاتية الحكم كلها تطبق الحكم الذاتي الإقليمي القومي. وطبقًا لما ينص عليه الدستور يحق للدولة أن تنشئ مناطق إدارية خاصة عند الضرورة. وتعد المنطقة الإدارية الخاصة منطقة إدارية محلية تابعة مباشرة للحكومة المركزية. وفي الوقت الراهن، الصين مقسمة إلى 23 مقاطعة، وخمس مناطق ذاتية الحكم، وأربع بلديات مركزية، ومنطقتين إداريتين خاصتين، منهم هونج كونج. ويقصد بالمنطقة الإدارية الخاصة أنها منطقة ذات حكم ذاتي لها قوانينها ونظامها الخاص، لكن تقع في الوقت نفسه تحت سيادة الصين وداخل حدودها.

أصول هونج كونج– ما قبل الاستعمار البريطاني

طبقًا للسجلات التاريخية، تتبع هونج كونج الصين منذ أكثر من 200 عام قبل الميلاد، وذلك عندما ضمها الإمبراطور تشين شي هوانغ إلى الصين للمرة الأولى في عهد أسرة تشين. وكانت هونج كونج منطقة منغلقة على نفسها، لا يسمح قادة البلاد في قديم عصرها بأن تتواصل مع العالم الخارجي إلا في نطاق محدود، ذلك على الرغم من ازدهار هونج كونج تجاريًّا أثناء عصر أسرة تانغ. ولجأت إدارة الصين حينئذ إلى ذلك بعد الهجوم البرتغالي على المنطقة من جهة البحر، وبعد معركة خاضتها الصين ضد البرتغال، استطاعت أن تطردهم من البلاد، أعلن بعدها الإمبراطور حظر النشاط التجاري والأنشطة البحرية، وعزل الصين عن الأجانب.

وفي عهد الإمبراطور كانغ شي، سمحت الصين مجددًا بالتجارة مع الأجانب في نطاق محدود، ومع الالتزام بتطبيق قيود على التجار الأجانب، وشروط معينة تضمنت الإقامة الجبرية في أماكن تحددها الدولة، والإقامة تكون خلال مواسم التجارة فقط، وعدم السماح بالتجارة في أي سلعة إلا الفضة، وحظر حمل الأسلحة النارية.

شركة الهند الشرقية.. أداة الاستعمار البريطاني

ظاهريًّا كان يبدو نشاط شركة الهند الشرقية تجاريًّا؛ حيث أنشأت الشركة عام 1600 للتجارة في البهارات الهندية، وفي ذلك الحين كانت إسبانيا والبرتغال تهيمن عليها.

مع مرور الوقت، تحولت الشركة إلى قناع للإمبريالية البريطانية في جنوب آسيا، ومرسول الاستعمار في نواحي من الهند، وكان للشركة جيش خاص، ووصل تعداده إلى نحو 200 ألف جندي بحلول عام 1800، وقد استخدمت هذه القوة العسكرية في إخضاع مدن عدة في الهند عن طريق الاتفاقيات التجارية، وفرض الضرائب المدمرة. وفي أوائل القرن التاسع عشر، بدأت الشركة بيع الأفيون إلى الصين بصورة غير قانونية، وهو ما حاولت المعارضة الصينية التصدي له، وقامت على أساسه حربا الأفيون الأولى (1839– 1842)، والثانية (1856 – 1860)، والتي انتهت بانتصار القوات البريطانية.

نتيجة الهزيمة

ترتب على الهزيمة في حرب الأفيون الأولى عقد اتفاقية لها عدة شروط هي: فتح بعض المدن الصينية للتجارة مع الأجانب، والتنازل عن جزء من هونج كونج.

وكذلك الأمر، ترتب على الهزيمة في حرب الأفيون الثانية التنازل عن جزء آخر من هونج كونج. وقررت بعدها بريطانيا توقيع معاهدة لتوسعة منطقة هونج كونج استأجرت بريطانيا من خلاله جزءًا آخر مجاورًا لهونج كونج لمدة 99 عامًا، ومنذ ذلك الحين بقيت حدود هونج كونج ثابتة لما هو موجود حاليًا. وحاولت بريطانيا بعد ذلك نشر ثقافتها في هونج كونج، بل طبقت نظامًا تعليميًّا مشابهًا للموجود في بريطانيا.

عودة هونج كونج

عقدت الصين مفاوضات مع بريطانيا انتهت بالتنازل للصين عن منطقة هونج كونج في 1 يوليو (تموز) 1997، وهو تاريخ انتهاء مدة التأجير المتفق عليها عقب هزيمة حرب الأفيون. وتضمن ذلك الاتفاق بشروط محددة هي أن تتمتع هونج كونج بفترة انتقالية للحكم مدته 50 عامًا، يطبق خلال هذه المدة حكم ذاتي مماثل للذي عاشت في ظله خلال الاستعمار البريطاني. وافقت الصين على هذه الشروط لعدة اعتبارات، أهمها هي أن الصين كانت مستفيدة من الازدهار الاقتصادي في هونج كونج، وعليه وافقت الصين على هذا الاتفاق بشكل مؤقت تحت شعار (دولة واحدة ونظامان).

الخلاف مع الصين

يرجع الخلاف بين هونج كونج والصين إلى عدة أسباب، هو تمرد هونج كونج من فترة إلى أخرى اعتراضًا على الهيمنة الصينية على المنطقة، وأساليب القمع، وتقييد الحريات، خاصة بعد قانون الأمن الذي أعلنت عنه الصين، ويجرم قانون الأمن في هونج كونج المطالبة بالانفصال وأعمال التخريب والتواطؤ مع القوى الأجنبية، ويفرض قيودًا على تنظيم الاحتجاجات وعلى حرية التعبير. وبينما ترى المعارضة في هونج كونج أنه قانون يهدف إلى القمع، ترى الصين أنه ضروري لمعالجة الاضطرابات وعدم الاستقرار، كما أنها ترفض الانتقادات الخارجية معتبرة ذلك تدخلًا في شؤونها.

ما المنطق الذي تستند إليه الصين؟

وتتلخص قضية الصين ووجهة نظرها في فرض السيطرة الكاملة على هونج كونج، وعدم التفريط في الاستفادة القصوى من الاقتصاد في المنطقة، وهو المنطق نفسه الذي تتبعه الصين في التعامل قضية «شينجيانج» على سبيل المثال، لكن الاختلاف هنا أن شينجيانج هي تركستان الشرقية وهي ليست صينية، لكن الصين تفرض وصايتها عليها، وتزعم أنها لها، وهذه قصة يطول شرحها. أما هونج كونج، فهي صينية الأصل. في كل الأحوال، وفي اعتقادي، لن تسمح الصين لأي إعاقة للمسار الذي رسمته لنفسها؛ أي إنها ستبقى مصرة على التمسك بهونج كونج، وتطبيق ما تراه صحيحًا (من وجهة نظرها فقط).

موقف الغرب

تحاول قوى الغرب أن تناصر الديمقراطية وحقوق الإنسان كما اعتاد منها المجتمع الدولي من ناحية، والحفاظ على مصالحها الكبرى مع الصين من ناحية أخرى، فالصين تربطها اتفاقيات وشراكات اقتصادية بمعظم دول العالم، وهو ما يجعلها تسيطر على اقتصاد العالم، ترى من يتخلى عن مصالحه الشخصية في سبيل الدفاع عن حقوق آخرين؟ عزيزي، لا مجال لتلك الأقاويل الناعمة في لعبة السياسة.

والسؤال هنا، هل للصين الأحقية في السيطرة الكاملة على هونج كونج؟

في الحقيقة، لا أرى فيما تقوم به الصين غريبًا، بل إنه منطقي ومتوقع أيضًا، وأقصد بمتوقع أنه بالرجوع والاستناد للسجلات التاريخية في ذلك نجد أن فكرة القمع هي صفة خالصة في الشخصية الصينية، ويختلف مستواه باختلاف موقع الشخص الذي يمارس ذلك القمع، وفي اعتقادي أن الصين تتبع دائمًا سياسة الرأي الواحد والقائد الوحيد، وأظن أنها من أشهر الأمثلة وأنجحهم في صناعة أسطورة استثنائية عن طريق الديكتاتورية، وذلك ليس سهلًا على الإطلاق، ولن ينجح تطبيقه مع جميع الشعوب، لكل شعب شخصيته وفكره، ويكمن الذكاء في كيفية استفادة الحاكم من شخصية شعبه وطبائعه. إذًا فقضية القمع ليست بجديدة على الصين، ولا تنحصر على هونج كونج فقط، وإنما تطبق على كل من يعوق المسار. أما عن أحقية الصين في التمسك بهونج كونج، فإن هونج كونج صينية الأصل ولا شك في ذلك على الإطلاق، وتمسك الصين بالمنطقة ليس بالغريب، ليس فقط لأهمية هونج كونج اقتصاديًّا، ولكن لأن هونج كونج صينية فعلًا، وذلك ما نقله لنا التاريخ.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد