في ظل هذه الحالة المؤلمة التي تعيشها الأمة، وفي ظل الجراح المثخنة للشعوب الإسلامية، تتصاعد الدعوات المخلصة إلى بث الأمل في النفوس والتأكيد على وعد الله تعالى بالنصر والتمكين، دعوات مخلصة تزامنها تحليلات صادقة للأسباب المؤدية للواقع المرير، تتلخص في أن ما أصاب الأمة ما كان ليصيبها إلا لما اقترفت من معاصٍ وذنوب.

أكرر إنها دعوات مخلصة وتحليلات صادقة، لكنها إن وقفت عند هذا الحد من الدعوة للأمل والتوبة إلى الله، فإنها ستكون مثلها مثل الدبة التي قتلت صاحبها، فيصبح الأمل قنطرة الكسل وتصبح التوبة شماعة الاستسلام للواقع الظالم.

ولقد فِطن المستبدون إلى ذلك فاتخذوا من علماء السلطان بوقًا يصيح صباح مساء «من أعمالكم سُلِّط عليكم» و«صلاح الراعي من صلاح الرعية»، فتحولت الدعوات المخلصة إلى دعوات مغرضة تهدف إلى تثبيط الهمم والعزائم، وتسكين النفوس الثائرة بتأويلات فاسدة، أو نصوص مبتورة.

تخرج هذه الدعوات وتردد أن الهزائم التي تحيق بالأمة نتيجة الذنوب التي تقترفها الأمة، ولا نجاة ولا سبيل إلى النصر إلا بالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وأنَّى ذلك وكل ابن آدم خطّاء.

أنَّى ذلك وقد كتب الله على ابنِ آدمَ حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالةَ، فزنا العينِ النظرُ، وزنا اللسانِ المنطقُ، والنفسُ تتمنى وتشتهي، والفرجُ يصدقُ ذلك كلَّه أو يكذبُه [رواه البخاري].

أقول للمخلصين الذين يرددون هذه الدعوات ويعلقون بها الآمال في النصر، أقول هذه دعوات طيبة، ولكنها ليست مفتاح النصر، فإن النصر يأتي بالوسائل الدنيوية التي سنها الله تعالى للبشرية «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» [الفتح: 23].

سنة الله تعالى التي تقتضي من المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، القوة العسكرية والعلمية والفكرية والإعلامية، باختصار أسباب القوة في كل المجالات «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ» [الأنفال: 60].

سنة الله التي أباحت المحظور تماشيًا من السنن الكونية والتي وضعها الله للبشرية، فأباح الكذب والخديعة في الحرب «فإن الحرب خدعة» [رواه البخاري].

لقد أصبح الربط بين تحقيق النصر والإقلاع عن الذنب مسكنًا يريح النفس والأعصاب من تبيعة التقصير في أداء الواجبات والقيام بالمهام التي يقتضيها الزمان والمكان في مقاومة الظلم والطغيان والاستبداد.

فلسان الحال والمقال يقول لن تنتصر الأمة إلا إذا أقلع المسلمون (قاصيهم ودانيهم) عن المعاصي والذنوب، وكل ما أستطيع أن أقوم به أن أدعو المذنبين العصاة للتوبة والإنابة، وكل ما يجب علينا أن نصبر حتى تتحقق التوبة ويتنزل – وقتئذ – النصر العظيم والفتح المبين.

هيهات هيهات أن ينزل نصر لأمة متقاعدة، تجعل دعوات الأمل حيلة للكسل، وتجعل من سلاح الدعاء خنجرًا مسمومًا للتواكل.

نسي المخلصون والمغرضون معًا أن العمل هو الطريق الوحيد للنصر، وهو التوبة الحقيقية من ذنوب الفرار من المعركة، انظروا إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة أُحُد، ما جلس عن الجهاد في الميدان رغم الجراح والقتلى، ما قعد عن العمل رغم عظيم الذنب الذي ارتكبه بعض الصحابة وأنزل الهزيمة بالمسلمين، بل خرج يطارد من هَزموه بالأمس، بل خرج لجولة جديدة من العمل والجهاد، ولم يقبع يستجدي التوبة من العصاة حتى ينزل النصر، ويُرفع المقت.

فالنصر يأتي بالأمل المصاحب للعمل، والنصر يأتي بالتوبة المتبوعة بالعمل «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِئَاتِ» [هود: 114] فهلاك الأمم يأتي من تقصير المصلحين، لا من تقصير الصالحين، «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» [هود: 117].

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد