إن كنتَ تبحث عن زيارة للبيت الأبيض فما عليك سوى تتبع خطوات «دافيد فينشر»، والدخول في أروقة البيت الأبيض من بوابة House Of Cards فقد تخطى هذا العرض وهذه المعالجة الدرامية الحيّز الفنيّ لتغوص في سيرورات وعمليات اتخاذ القرار لتشكل مدخلًا للسياسة بشكل عام، وللسياسة الأمريكية بشكلٍ خاص. تتجسد رحى هذه الحرب البرجماتية والدبلوماسية في شخص «فرانك أنديروود» العضو في الكونجرس الأمريكيّ عن الحزب الديمقراطيّ، والّذي يقدمُ نموذجًا حيًّا للواقعية السياسية في شكلها المعاصر، فتتجلى تلك الفكرة الأساسية للواقعية الجديدة على أن الأخلاق ليست هي الركيزة التي تؤخذ في العمل السياسيّ، ولا اتخاذ القرار السياسي، ورغم أنها تُوضع بذريعة المصلحة القومية العليا، ولكن تُختزل هذه الشعارات والمصالح القومية في مصلحة الفرد.

«بيت من ورق» المسلسل الدراميّ السياسيّ الّذي عُرض للمرة الأولى في عام 2013 عن طريق شركة Netflix، التي تأخذ حيزًا أكبر واهتمامًا أكثر حول العالم، فهذا المسلسل المبني أساسًا على رواية البريطاني «مايكل دوبز» كان تعاملًا استثنائيًّا مع الدراما ومع التلفزيون، فقد لبست الدراما رداء النقد السياسي الخالص، ورداء المدخل السياسيّ لمعرفة ما يدور وراء كواليس اتخاذ القرار من صفقات سياسية، إلى انقسامات داخل الحزب الواحد، وصولًا إلى عقد التحالفات وفتح الجبهات، وهذا ما أعتقدُ أنه كان موضع اهتمام مختلف متابعين الدراما والسينما حول العالم.

في العودة إلى التسلسل الزمنيّ لأحداث المسلسل، ومع انطلاق تلك البداية الحارقة على قلب «فرانك»، وذلك بعد صعود الرئيس الأمريكي الجديد وإقصاء فرانك الموعود سابقًا بمنصب وزير الخارجية الأمريكية، الممثل للموقف الأمريكي في المحافل الدولية والعالمية، عندها بدأت حالة الطموح والجموح تغزو جسد فرانك أنديرود وبمساعدة وتحريض من زوجته «كلير» لكي يقوم بعملية الانتقام، أو عملية رد الاعتبار عن طريق النظر والتخطيط عاليًا وبعيدًا.

مع مرور حلقات المسلسل وتطور الأحداث والتصاعد الزمني لها، نستطيع ملامسة نقد لاذع للمنظومة السياسية الاجتماعية الليبرالية التي من المفروض أنها بُنيت على مبادئ الحرية والديمقراطية وحكم الشعب لصالح الشعب، ولكن ما يجري هو عكس ذلك إذ إنه تم استبدال هذه المبادئ بمبادئ الفردانية والأنانية، ونزعات الطمع والجشع، واللهث وراء المصلحة الشخصية، ووراء القوة السلطوية، أو القوة المالية، فقد رأينا تتويجًا لهذا النقد في الموسم الثاني عندما قال «فرانك» ابن هذه المنظومة إن «الديمقراطية مبالغ بها» فمن أدرى بصنع القرار أكثر من الشريك في صنعه؟ فالصفقات التي تدير شؤون الدولة وراء الكواليس، والطابع التصارعي للديمقراطية الّذي يفوق الطابع التوافقي ما هي إلا تعبير عن هذه المبالغة في تبني الشعارات الديمقراطية الرنانة التي باتت تُشكل وعيًا زائفًا، وتخفي علاقات القوة الحقيقية السائدة في الدولة والمجتمع، فعن طريق التلاعب والخداع، عن طريق التجرد من الأخلاق ووضع المشروعية التامة أمام كل الوسائل لخدمة الهدف استطاع عضو الكونجرس سابقًا الصعود أعلى في المبنى الهرمي للدولة، فكأنما فرانك كان قد طالع «أمير» ميكيافللي في شبابه واتخذه دستورًا لحياته، فالغايات ضمن المنطق الميكيافلليّ الصرف تُبيح شتى أنواع الوسائل وأكثرها عنفًا وإجرامًا، فما بالك إذا كانت الغاية في house of cards هي الجلوس على الكرسي الأول للدولة الأقوى والدولة المهيمنة في العالم، فلم يغب عن أذهاننا تعقيب فرانك في أحد المشاهد «الواقعية» عند مقتل الصحفية زوي بارنز: «لمن منا من يرغبون في التسلل إلى قمة الهرم يجب أن يكونوا بلا رحمة وأن هنالك قاعدة واحدة فقط، اصطادهم وإلا سيتم اصطيادك».

الأميرُ أو فرانك أنديروود في حالتنا قد مشى حسب القاعدة الميكيافللية التي تقول إن ارتكاب الجريمة القاسية يمكّن من جني الثمار فيما بعد، والوصول إلى «الإمارة المدنية» أو «الجمهورية الأمريكية» في حالتنا يلازمه المكر والدهاء وحسن الطالع، ففرانك الزعيم «الديمقراطي» المارق قد كرس احتقار حكم القانون الّذي هو متأصلٌ في منطق الدول المارقة التي تشكل الولايات المتحدة شكلًا من أشكالها.

أثناء متابعة المسلسل وعن طريق الإمعان في الحرب التي حصلت في الموسم الثاني بين «رايموند تاسك» الوجه الناصع للنخبة الاقتصادية الأمريكية، وبين «فرانك أنديروود» الوجه الناصع للنخبة السياسية الأمريكية، وما استتبعها من ممارساتٍ غير قانونية، نسترجعُ وبشكل تلقائي توماس هوبز وكتابه «اللفيتان» الّذي طرح وتحدث عن حرب الكل بالكل في الوضع الطبيعي، أو الوضع عند تلاشي القانون وما يجره من ممارسات غير أخلاقية؛ مما يُشرّعُ السؤال عن الفرق في حالة تلاشي القانون وانعدامه، أو في الحالة عندما يكون بعض من الأفراد فوق القانون ورقابته؟ ففي لحظات اضمحلال القانون أو لحظات العلو على القانون يلجأ كلُ فردٍ إلى قواته الخاصة بغية حماية نفسه من الآخرين.

على الصعيد الإخراجي قد هيأ «ديفد فينشر» المناخ السياسيّ اللازم لمواكبة الأحداث والإحساس بالضغوطات التي نشعرها في الحياة اليومية السياسية والاجتماعية، فلن يشعر المتابع سوى أنه داخل البيت الأبيض، ومواكب للمتغيرات والمجريات، ومن الجدير بالذكر أهمية أسلوب التحدث للكاميرا من خلال «كيفن سبيسي» أو «فرانك أنديروود» كحالة إفشاء للأسرار، وحالة تبادل أفكار بين طاغية العالم الحر، وبين المشاهد.

متابعة House of cards هي فرصة لا تعوض للنظر بعينة مختلفة على الوضع الراهن، على الواقع السياسي وعلى الخيارات المتاحة، فسحةٌ جديدة للرؤية النقدية من خلال العين الدرامية الفنية.

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد