بعد الحرب العالمية الثانية، قدمت الولايات المتحدة ملايين الدولارات كمساعدات للدول الأوربية. أسهمت هذه المساعدات كثيرًا في خروج أوروبا الغربية قوية في فترة ما بعد الحرب. نفس نموذج «المساعدات» هذا انتقل بعدها إلى أفريقيا، مليارات الدولارات توجهت إلى القارة. والنتيجة بعد ما يزيد عن خمسين سنة: فقر أكبر، تبعية اقتصادية، ومعدلات نمو اقتصادي متدنية.

تعمل هذه السطور على فهم ضرر المساعدات الدولية في الحالة الأفريقية وكيف تحولت إلى أداة مميتة. المصدر الأساسي لهذه المدونة كتاب «المساعدات الميتة» للباحثة الأفريقية (دامبيسا مويو) خريجة أوكسفورد. تعتبر الكاتبة مويو المساعدات واحدة من أكبر خرافات العصر الحالي وأنها مشكلة أفريقيا الحقيقية. هناك أبواب أخرى لتحقيق التنمية غير المساعدات يجب على الدول الأفريقية أن تعمل عليها وفقا لمويو.

من الأهمية هنا إيضاح أن المساعدات المعنية بهذه المدونة هي المساعدات الدولية التي تقدمها الدول أو الجهات المانحة كالبنك الدولي والأمم المتحدة (على شكل منح أو قروض ميسرة). لا تشك مويو -وأشاركها الرأي- بأهمية المساعدات التي يقدمها أفراد أو شركات أو منظمات إنسانية، على عكس المساعدات الدولية. جميع الأنواع السابقة من المساعدات تلعب دورا مهما في الحروب والكوارث والأزمات، في حين أن المساعدات الدولية طويلة الأجل لها آثار مدمرة كما سنرى.

تاريخ المساعدات الدولية

يعود تاريخ المساعدات الأجنبية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أغلب الدول الأوربية مدمرة وتعاني من تبعات طويلة للحرب على الاقتصاد والمجتمع. ظهر حينها أول مثال عرفه التاريخ للمساعدات الأجنبية باسم خطة مارشال عام 1947. وفقا لهذه الخطة، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات قيمتها 13 مليار دولار أمريكي (ما يزيد عن 100 مليار دولار أمريكي بأسعار اليوم) مقابل أن ترسم الدول الأوربية المتضررة خطة انتعاش اقتصادي.

حققت خطة مارشال نجاحًا منقطع النظير. استطاعت أن تعيد الدول الأوربية كدول فاعلة اقتصاديا وترمم بنيتها التحتية المدمرة، تحقق استقرارا سياسيا وتعيد الأمل لشعوبها المكسورة. في المقابل، نجحت الولايات المتحدة في تجاوز احتمال كساد عالمي سيضر بها بالدرجة الأولى (لأنها الدولة الوحيدة التي لم تتضرر في الحرب وعجلة اقتصادها الدائرة بحاجة إلى أسواق)، وكسبت حلفاء أشداء من دول أوروبا الغربية، وبسطت سيطرة أكبر على العالم حيث صدت المد الشيوعي السوفييتي الذي يلقى رواجا في الدول المنهارة.

بعد هذا النجاح الكبير، وكون المساعدات قد أفادت أوروبا، فلماذا لا نطبق نفس المبدأ في مكان آخر؟ ونحقق نجاحات متتالية مبهرة. في نهاية عام 1950 وبعد أن انتهت أوروبا من إعادة الإعمار، بدأ البحث عن مكان آخر للمساعدات، وكان أفريقيا.

لماذا أفريقيا؟

كانت القارة تعاني من معدلات تعليم منخفضة، رواتب متدنية، غياب نظام ضريبي وقدرة ضعيفة على الوصول إلى الأسواق العالمية مع بنية تحتية متهالكة، غياب أي مدخرات محلية كافية، ونقص في رأس المال البشري الجاذب للاستثمار الخاص. وبذلك بدأت المساعدات لأفريقيا تظهر وكأنها البديل الوحيد لتحقيق استثمار أكبر كما رأى أصحاب القرار.

في منتصف ستينات القرن، دخلت القارة الأفريقية في تغييرات كبيرة. بدأت الدول تحصل بشكل متتابع على الاستقلال وتكسر حلقات الاستعمار الأوروبي. لكن في الواقع بقيت تابعة للسيد المستعمر عبر سخائه المالي.

بالنسبة لأوروبا، بدت هذه المساعدات «النبيلة» وسيلة للحفاظ على سيطرتها الاستراتيجية. أما أمريكا، فكانت جزءا من صراع سياسي (الحرب الباردة). استخدم الاتحاد السوفيتي سابقا وأمريكا المساعدات للعمل على تحويل العالم إما للاشتراكية أو الرأسمالية، المساعدات كانت أحد الأسلحة وأفريقيا كانت أرضا للمعركة.

كانت المساعدات لا تتوجه للدول حسب حاجتها الحقيقية، بل وفقا لطبيعة قياداتها والدرجة التي يميل فيها قادة البلد للتحالف مع أحد القطبين. حدث ببساطة أن تم دعم ديكتاتوريات بهذه المساعدات، لم يكن ذلك مهمًا بقدر أن يكونوا حلفاء للدولة السخية.

أنماط المساعدات الدولية في أفريقيا

لم يتم استخدام المساعدات الموجهة إلى أفريقيا بشكل واحد عبر عشرات السنين. بل تغير شكل وطبيعة القطاعات التي توجهت إليها وتنوع تركزها. ففي الستينات، انصبت المساعدات في الصناعة وساهمت في تمويل مشاريع صناعية وبنى تحتية مهمة. في السبعينات، توجه الاهتمام لمحاربة الفقر ودعم الفئات الفقيرة في المجتمع، في الثمانينات هدفت إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي وإعادة هيكلة الديون المتعثرة مع بوادر تعثر مالي على صعيد العالم. في التسعينيات، بزغ عصر الحوكمة مع دعوات أن المشكلة ليست في المساعدات أبدا، بل في البيئة نفسها التي تفتقر للديمقراطية. فلنعمل على تعزيز الممارسات الديمقراطية حتى تعطي المساعدات نتائجها المبهرة! تميزت هذه الفترة أيضا بأن أغلب المساعدات باتت تأتي عبر المنظمات الدولية كالبنك الدولي وبرامج الأمم المتحدة الإنمائية (النسبة الأكبر على شكل منح) بعد أن كانت أحادية الجانب تأتي من دولة لدولة (من حكومة لحكومة). بداية القرن الواحد والعشرين، ظهر ما يعرف بعصر المساعدات الجذابة التي تتم عبر حملات يقودها مشاهير الفن والموسيقا في العالم: نحن نعمل لأفريقيا القارة الفقيرة المسكينة ونجمع التبرعات لها.

النتيجة ما يزيد عن 2 تريليون دولار من مساعدات الدول الغنية إلى الدول الفقيرة لأكثر من خمسين عاما. حصة أفريقيا هي الأكبر من هذه المساعدات. بغض النظر عن دوافع الدول المانحة (اقتصادية أو سياسية أو أخلاقية) فقد فشلت المساعدات في تحقيق التنمية الموعودة أو تقليل الفقر. المساعدات لأفريقيا هي جوهر كل خطط التنمية. تعتبر مويو أن هذا الجوهر قد منع أفريقيا والأفارقة من تطوير طرق أخرى للتنمية كما تفعل كل دول العالم ما عدا أفريقيا.

كيف فتكت المساعدات بأفريقيا؟

تعتبر الباحثة مويو أن المساعدات هي القاتل الصامت للنمو. تعتمد المساعدات بشكل كبير على تطفيل مستقبِل المساعدة. فهم غير قادرين على تطوير بلادهم بدون مساعدة، وهذه النظرة تجاه الأفارقة تعود إلى رواسب من استعمار طويل. إلى جانب هذا، تنتج المساعدات آثارا تدميرية على الاقتصاد والمجتمع والسياسة يمكن تلخيصها بالتالي:

١. الفساد والمساعدات: يشتكي مجتمع المانحين أن المساعدات يتم استخدمها في مصاريف غير منتجة أو تمويل فساد. ففي عام 1978، أص صندوق النقد الدولي تقريرا عن الفساد المنظم في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ذكر التقرير أنه لا يوجد احتمال (ركزوا على لا يوجد) لأي من دائني الدولة أن يحصلوا على أموالهم لشدة الفساد. بعد فترة قصيرة، حصلت الكونغو على أكبر قرض على الإطلاق تحصل عليه دولة إفريقية. تتعدد الأمثلة عن مساعدات كبيرة للدول الأكثر فسادا وديكتاتورية. تقول التقديرات أن 25% على الأقل من مساعدات البنك الدولي للدول الفقيرة (حوالي 130 مليار دولار منذ عام 1946) تم إساءة استخدامها وساهمت في دعم الفساد. من الواضح أن برامج المساعدات الدولية تفتقر للمحاسبة الكافية.

٢. الحلقة الشيطانية المفرغة: فساد الدولة ضمن نموذج المساعدات يزدهر لينتج فسادا أكبر. فتدخل الدولة في حلقة شيطانية مفرغة: تقديم أموال مجانية على شكل مساعدات تهدر بشكل كبير في تغذية الفساد وزيادة ثراء الطبقة الحاكمة. هذا الفساد يجعل الدول غير جذابة للاستثمار المحلي ولا للأجنبي. إن ضعف الاستثمارات وانعدام الشفافية يقللان من النمو الاقتصادي الذي يؤدي إلى فرص عمل أقل ويزيد معدلات الفقر. في سبيل مواجهة الفقر، يقوم المانحون بمنح مساعدات جديدة وهكذا دواليك. تخلق هذه الحلقة ثقافة اعتماد على المساعدات وتؤسس لوجود فساد منظم. هي في الواقع تعمل على ضمان تعثر اقتصادي مستمر.

٣. المساعدات والاقتصاد: إن المساعدات وما تسببه من انخفاض في معدلات الاستثمار تؤثر سلبا على المدخرات التي بدورها تؤثر على البنوك المحلية وتحد من قدرتها على الإقراض. كل هذا سيعطل من عمل القطاع الخاص. إضافة إلى ذلك فإن المساعدات الدولية هي أموال خارجية لم تنتج عن دورة الاقتصاد. ستشتري هذه الأموال البضائع المتاحة في البلد. الطلب الأكبر من العرض سيؤدي إلى تضخم أعلى، الأمر الذي سيضر بدوره بقطاع التصدير لتناقص القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية. كل هذا يشوه الاقتصاد ويضر بدورته المفترضة.

٤. المساعدات والمجتمع المدني: تعمل الطبقة المتوسطة على الحفاظ على دور القانون والأطر القانونية في البلاد وتساهم في مساءلة الحكومات. في نموذج المساعدات، تقل أهمية الطبقة المتوسطة. يتم تحييد المواطنين جانبا فرضاهم غير مهم مقابل رضى المانحين الذين يقدمون أموالا سهلة. تكسر المساعدات الدولية حلقة مهمة تربط الطبقة الوسطى بالحكومة وهي الضرائب. فالحكومة تعتمد بشكل شبه كلي على المساعدات، ولا تدين شيئا لمواطنيها ولن تسعى لتحقيق رفاههم. في حين أن الطبقة المتوسطة، وهياكل المجتمع المدني والضرائب تشكل أساس التنمية المستدامة طويلة الأمد. تجعل المساعدات الحكومة أكثر تسلطا والحريات الفردية أقل. أكثر من ذلك، فهي تعمل على تدمير الثقة في المجتمع بسبب غياب المساءلة والمحاسبة ونزع سلطة الشعب.

٥. المساعدات والحرب الأهلية: في تسعينيات القرن الماضي، عانت أفريقيا من 17 صراعًا مسلحًا. لا تدعي الكاتبة أن المساعدات هي سبب هذه الحروب. إلا أن تقاسم كعكة المساعدات كان أحد الأسباب بلا شك كما في سيراليون والصومال. بشكل غير مباشر، المساعدات تؤدي إلى انخفاض الدخل وتباطؤ النمو الاقتصادي والتي هي عوامل تزيد من مخاطر حدوث النزاع. المساعدات أيضا تساهم في خلق ثقافة العسكرة كمؤسس للحروب الأهلية، المنتصر فيها سيفوز بكرسي الحكم والمساعدات. لا ننسى أن المساعدات لا تعنى أبدا بدرجة استقامة أو ديكتاتورية الحاكم.

٦. أكذوبة المساعدات المشروطة: يقول المدافعون عن نموذج المساعدات أنها مشروطة؛ إذا التزمت الدول بخطط التنمية المتفق عليها فإن المساعدات ستتدفق، إذا لم تلتزم فإننا ببساطة سنقطع المساعدات. في سبيل ذلك يستثمر المتبرعون في توظيف موظفيهم، يختارون القطاع (أو المشروع) الذي يرغبون بدعمه مسبقا ويشترطون الالتزام بخطط سياسية واقتصادية. على أرض الواقع تبقى الشروط حبرا على ورق، وتفشل هذه المشروطية بدرجة مرعبة. تتحدث الباحثة عن دراسة للبنك الدولي بأن أكثر من 85% من المساعدات استخدمت في غير الغرض الذي كان يجب أن تعمل عليه وفي أحيان كثير كانت غير منتجة. ومع ذلك، تستمر المساعدات في التدفق.

لماذا نجحت المساعدات في أوروبا وفشلت في أفريقيا؟

لم تعتمد الدول الأوروبية فقط على المساعدات لتحقيق نهضة اقتصادية. على الرغم من الحرب المدمرة، كان لدى أوروبا مصادر متنوعة حيث لم تشكل خطة مارشال أكثر من 2.5% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لكل من فرنسا وألمانيا. كانت الخطة تعتمد على مساعدات لها زمن محدد بخمس سنوات فقط. لم تكن مفتوحة على عكس أفريقيا التي لا يوجد أي حدود زمنية للمساعدات فيها. السياق الذي تمت فيه خطة مارشال مختلف عن أفريقيا بشكل كبير. فالدول الأوروبية كان لديها مسبقا مؤسسات وأطر قانونية واجتماعية. ما احتاجته في خطة مارشال هو دفعة فقط لتعود إلى سابق عهدها. خطة مارشال كانت تستهدف إعادة الإعمار وليس تحقيق تنمية اقتصادية. البناء يختلف عن إعادة البناء، ويتطلب ما هو أكبر بكثير من المال فحسب. بالإضافة لذلك فإن المساعدات في خطة مارشال انحصرت بالبنية التحتية في حين المساعدات في أفريقيا اتجهت إلى كل شيء وكل قطاع في الاقتصاد: التعليم، الصحة، الجيش، البنية التحتية والأمراض المزمنة. عمل هذا على خلق ثقافة معتمدة على المساعدات.

كبديل للمساعدات، تقترح الكاتبة خطة تقوم على تناقص تدريجي للمساعدات خلال فترة زمنية محددة. تعمل فيها الدول الأفريقية على تعزيز اقتصاداتها، كما تفعل كل دول العالم. من هذه الحلول: تعزيز الاستثمار الأجنبي، الاقتراض من سوق السندات العالمي، تعزيز التجارة والتبادل التجاري، الإقراض المتناهي في الصغر للفئات الفقيرة في المجتمع، والاعتماد بشكل أكبر على تحويلات المغتربين. هناك الكثير من التحفظات على بعض هذه الحلول وآثارها الجانبية. لكن فحوى المطلوب الاعتماد على الاقتصاد بكل مكوناته ليكون هو المصدر الأول والأهم للأموال في البلاد.

ماذا عن سوريا؟

لا تهدف هذه المدونة إلى دراسة المساعدات الأجنبية في سوريا فالأمر بحد ذاته بحث مطول. كما أن البلاد لم تستقر بعد. بل تسعى إلى جلب الأسئلة على الطاولة. كما أن مناقشة نموذج المساعدات لبلد تعاني حربا ولجوءا ليس بالأمر السهل أبدا. الناس بحاجة للمساعدة. والمساعدات الدولية تخفف من أعباء الحياة بشكل أو بآخر. إلا أن نموذج المساعدات هذه مثقل بالمشاكل وتترتب عليه آثار مدمرة. مجددا، الحديث هنا يدور حول المساعدات الدولية وليست المساعدات الفردية.

في كل مرة نسمع فيها اجتماعا لدول مانحة أو خطط متعلقة بإعادة الإعمار في سوريا، يجب أن نفكر ملياً في الآثار المترتبة على المساعدات. المساعدات يجب أن تكون محددة الأهداف، بخطط زمنية واضحة وأن يتجه أغلبها إلى البنية التحتية. الحاجة لبدائل قائمة على حلول اقتصادية مستدامة هو دائما مطلب ملح ويجب ألا يغيب عن البال. وإلا فإن المساعدات على الأمد الطويل قد يترتب عليها نتائج مماثلة لما حصل في أفريقيا في الاقتصاد والمجتمع والسياسة. ولا ننسى أن الوقوع في مصيدة المساعدات مرجح بشكل كبير في الدول التي تعاني نزاعات وحروبا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد