جلنا إن لم أقل كلنا قرأ ولو كتيبًا واحدًا بعنوان: كيف تتقن الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية…، في أسبوع وبدون معلم، حجمه شبيه بحجم الدساتير الدولية، وقليلون من أتقنوا هذه اللغات اعتمادًا على عشرات من هذه الكتيبات وجملة من الأساتذة المتخصصين، ومنا من ولج مركزًا من المراكز الغربية المنتشرة في بلادنا العربية – لقليل من المثاقفة وكثير من الغزو الثقافي والاستيلاب الحضاري – بل من الزملاء من تخصص جامعيًا في لغة «حية» لعله يتقنها، ومنا أيضًا من ولد وشب وشاب ورحل دون حتى أن يتحدث أو يكتب العربية ولا سمع بالعبرية، وهذا فصل آخر من أهم فصول معاناتنا نحن أمة «إقرأ» لسوء حظنا من جهة، ولحسنه من أخرى أن التنفس لا يحتاج لدليل مكتوب وإلا أعدمه الكثير منا، أو استوردناه كما نستورد أغلب أغراضنا .
«الكتيب» بالنسبة لأعداء الحياة، الذي لا يفيد لإتقان الفرنسية أو الإنجليزية عظيم الأثر والفاعلية، هو أو مطوية تغريدة أو عبارة على وسائل تواصل اجتماعية، أمور كافية لجعل العالم يضع يده على قلبه، كيف لا وجيش إلكتروني خلفهم أبان في طريقة تصوير قتل ضحاياه بطريقة همجية على فهم في التقنية .
مع تنظيم الدولة «داعش» هذه الوسائل في المنهج والخطاب وما تحويه من جهاز مفاهيمي تصبح مجدية وذات مردودية، يكفيها الموضوع لتخلق «إبستمولوجيا» ظلامية خاصة بها آنية، مرنة، تتغير بتغير العدو والزمان والمكان.
من أحداث 11 سبتمبر الدامية إلى تفجيرات باريس، هذه السلسلة من الهجمات الإرهابية الأخيرة المتنوعة بين إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن، التي هزت باريس، لندن دون أن يكون منفذوها من أصول عربية، زيادة على آلاف الغربيين الذين يلتحقون بالجماعات الإرهابية من أصول أوروبية في الشيشان والعراق وسورية، تجعلنا نطرح سؤالًا صعب الإجابة، إن اجتهدنا عليه يكفي لإنقاذ ما تبقى من ماء وجه وشرف للبشرية، ومن شأنه أن يسحب البساط من تحت أرجل فصائل جهادية أو أنظمة عسكرية قمعية على حد سواء.
إذن فتش في الديمقراطية واسأل عن العدالة الاجتماعية، ولا تستهن في القرن 21 بقيم الليبرالية أو بالأحرى النيو عبودية وراجع حسابك، هل يكفي اتهام الرجعية في كل مآسي الإنسانية؟ إن دققت قليلًا وارد جدًا أن تصل إلى أنها نتيجة وليست سبب بالمحصلة في كثير من الأوقات عن قصد أو غير قصد .
ماذا لو كان الإرهابي اسمه هنري وليس لا أحمد ولا عبد العال، فقط لم تقنعه المسيحية ولا الكوكاكولا ولا اليهودية، ولم يملأ فراغه الروحي عندما جرب اليوغا الصينية وقبلها تداوى بالأعشاب الشرقية واطلع على البوذية حتى سقط أخيرًا بيد قوى إرهابية، أشقر الشعر أزرق العينين وشديد بياض الوجه مثقف إن شئت…، وبالآلف مثله، هل كلهم يعانون من اختلالات نفسية كما عودنا الإعلام الغربي في عمليات سابقة شبيهة؟، أم أن هذا دليل على انهيار منظومة قيمية غربية استهلاكية صرفة مادية معولمة ظالمة لا تترك مجالًا ولو قليلًا للتفكير في الاختيار؟
محير الأمر وغريب، والأكثر حيرة وغرابة كيف استطاعت «داعش» أن تحول السكارى وعباد اليورو والدينار والدولار، الأغنياء منهم والفقراء، إلى مشاريع استشهادية، أقصد جحافل قتل ودمار.
كل علامات الاستفهام والتعجب تستوقفنا وكل مناهج العلوم الإنسانية وغيرها نحتاجها لتعيننا على الإدراك، بل فقط الفهم، لا فقط مجرد ملامسة واقع يتسم بالتعقد والتداخل.
كيف أصبحت طلبات «البغدادي» التعجيزية أوامر وتم الاقتناع برسالة على موبايل أو بدردشة في مواقع اجتماعية بأن موسم الهجرة قد حل ولا بد من حصاد مر (قتل الإنسانية)، وبالتالي يطيب هجر الزوجة والولد والوطن والعائلة…،؟ إلى هذا المستوى أصبحت الحياة دونية، وفلسفتها سطحية؟ ماذا لو كنت قد أخطأت التقدير في قرار الرحيل ولم تنل الشهادة المزعومة، وبدلًا من أن تنعم في الجنة وحور عينها استقبلتك ملائكة شداد غلاظ تقدر الحياة الإنسانية فخسرت مرارًا أو على الأقل مرتين وبئس الخسارة.
معادلة صعبة بمجاهيل عدة تبصم عليها «داعش» في هذه الآونة الأخيرة جعلت من«تنظيم القاعدة» تلميذًا مهذبًا لكن شقيًا وانتهى .
على كل حال محاربة أسباب التطرف مدخل أساسي للقضاء على الإرهاب العابر للقارات، أما استعمال القوة وتشديد القبضة الأمنية فستبقى حلولًا ترقيعية لا يمكن لها إلا أن تزيد الشباب العربي والغربي تعلقًا بالسراب .
التطرف مشروع إجرامي ظلامي رجعي متناقض يبيع الوهم، يحتاج إلى مشروع خلاق تنويري تقدمي وحداثي متكامل يهب الحياة، يربط الأسباب بالمسببات يتذوق الفن ويعشق الجمال يفكك ويؤول، ويربط الجسور النقدية مع التراث – متى كان ذلك قادرًا على تقديم الإضافة- ولا يعيش منعزلًا عن التطورات التي تعرفها البشرية في شتى المجالات ولا سيما الفكرية والتكنولوجية، ألم يبعث فينا «طه» و«الجابري» و«العروي» رسولًا؟
بلدان المأسسة، أوربا الحضارة والحداثة والنقاق، وأمريكا شرطي العالم الأمين وملتقى الساسة ورأس الأفعى، كفى كفى دمارًا وتقتيلًا فينا، مطلقًا نحن لسنا إرهابيين، نقدركم تقديرًا، تقدير الإنسان للإنسان، ونريد وصالكم ونود العيش معكم جميعكم، ببساطة «لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، دليلنا حرص منقطع النظير على اقتناء كل واحد منا كتابًا كتبناه بأيدينا عنوانه: كيف نتقن الإنجليزية في سبعة أيام بدون معلم؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست