رغم انحسار الأذن الموسيقية للأصوات الشامية الكلاسيكية والجبلية وكذلك المصرية العاطفية الطربية، وبعضهم للأصوات الغربية.
إلا أني قد أجد أن الأغنيات الخليجية والعراقية الطربية هي الأكبر والأكثر قيمة أدبية عميقة كنظيراتها من الأغنيات الطربية العربية، ليس انحيازًا كوني من مُحبي هذا اللون الموسيقي الذي يتَغنى على مقام «البيات والصبا» ذي الآلات الموسيقية الباكية وتعبر عن الحزن الشديد والعود الشرقي على رأسهم.
فالموسيقى أذواق وألوان وثقافة، والأغنية هي حالة إحساس عال من الجمال والإبداع، لكن ليس بالضروري أن يكون عليها إجماع ويبقى الأمر نسبيًّا، وهذا الحال في الطرب باختلاف بقعته الجغرافية، فلا يمكن الاستهانة بلون عن آخر.
وعلك تجد أن أكثر الأغنيات قوة التي غُنت على مقام الصبا، الذي يُعزف على آلة العود المعروفة بالطرب والشجى والإحساس ومنها: مقادير، الأماكن، واحشني زمانك، اسمحيلي بالغرام، أبيك، الصوت الجريح. جميعها من الأغنيات الخليجية الطربية التي كُتبت على يد شعراء عظماء ليسوا بالهاوين، ومصطلحاتهم وأفكارهم غائرة مثل الشاعر: منصور الشادي، محمد العبد لله الفصيل، علي الخوار، خالد الترمناني، وغيرهم الكثر من الشعراء القامات.
فيما أن الأغنية الخليجية اعتمدت مقام البيات الذي يجمع بين الفرح والرقة والحزن ويعتمد الوتر الثالث في آلة العود رفقة الألات الآخرى، ومن أغنياته: أبعتذر، الرسايل، كل العواذل، بحر العيون، ليلة خميس، وأغنية مقادير التي مزجت بين مقامين وتعد من أكثر الأغنيات طربًا وألمًا وحبًا وقوة وتجاوزًا للمكابر في الشعور.
أن الأغنيات الخليجبة ليست بالسطحية المملة المزعجة كما ينعتها البعض، وذلك بعد انتشار الكم الهائل من الأصوات الخليجية بشتى ألوانها ومحابات الكثير من تأديتها مما وضع الغمامة على الأصالة الفنية الحقيقة، بل إن هذا الوجه للجيل الجديد أضعف قيمة الأغنية الطربية وأجهل الاصوات القوية.
وبهذا الاندثار للكثير من الاصوات التي صدرت صورة سطحية للأغنية الخليجية، جعل الكثير يتفاداها استهانة بالثقافة الخليجية. لذلك عليك البحث جيدًا عن الأغنيات الآسرة للفؤاد حين سماعها، وخاصة أن كتابها؛ شعراء يتسمون بالبلاغة اللغوية والأدبية، أي تحمل قصة، فكرة، عبرة.
تلامس وتر الحقيقة في رُقيها ووصولها لعمق الأثر الذي يصعب مواجهته، انه ميراث عظيم من أنس الليل ومواساة الوحيد ومداواة العليل ونعت ومعاتبة الفراق بطريقة أدبية بليغة ملؤها الشجن والاحتواء. والاغنية مهما تضاءلت وتراجعت تبقى الطربية تفوقها مهما اختلفت اللهجات والثقافات، فبذلك الطرب الخليجي يحتل قيمة بمثابة القيمة التي تتفوق فيها الأغنية المصرية الطربية، ولو بحث عن الآلات والمعزوفات الموسيقية التي تعزف مع الشعر الخليجي، ستجد أنها آلات صعبة ليس بمقدور أي هاوٍ أن يتقن العزف بها، مثال:
الدف الصغير: وهو غالبا ما يستخدم الدفوف الصغيرة مع مجموعات القرع العادية، وهي آلة إيقاعية عربية.
الناي: آلة موسيقية شرقية هوائية تستخدم في التخت الموسيقي التي يستخرج منه نغمة البيات.
المرواس: آلة إيقاعية صغيرة الحجم تتكون من أسطوانة خشبية مجوفة، يعتمد في إيقاعه على نقرات ريشة العازف على العود، وهي تستخدم في حفلات السمر.
عليك اللجوء إلى فناني العصر الذهبي في الخليج، الذين أثمرت أصواتهم باالجمال والرقي، لا عليك بالركود الحاصل من بعض فناني العرب الذين وضعوا الغمامة على الاصالة والفن والأدب. لا تُدخل الأزياء والمظهر في تقييم قيمة الأغنية.
لو تمعنت أغنيات أحلام الشامسي لذهبت لدواخلك ترى الجمال في الروح، أنها تتملك الروح في حال استمعت: «أكثر من أوّل أحبّك، بس ما أبغي أقول أخاف، لو قلت تتغلّى عليّ مرّة، أنا بصراحة أحبّك حب مو معقول»، ستذوب في ليلك من صوتها القوي الدافىء الحنون رغم تعاليها، أي أن الحب مفتاح الإنسانية.
كذلك كلمات أغنية «يا ساري الليل شوق الليل يذبحني، بلغ على قد ما تقدر من أشواقي، أحبس دموع شتياقي بس تفضحني، صبرت عيني ولا صبرت خفاقي». تلك الأغنية من غناء ميحد حمد، وعند استماعك لها سيسطو عليك الشعور الباكي الدافىء إلى يترأسه الرقي والكبرياء، وبالعود تجملت تلك القطعة الفنية.
وعن الفن العراقي الحديث يطول، ولربما تختاج لمقالة منفردة للحديث عن أصالتها وقوتها الأدبية والبلاغية، واختصارًا.. ألم تستمع لكاظم الساهر ولصعوبة الأغنيات التي يقدمها؟ كذلك سعدون جابر الذي يختلج الفؤاد من صوته الذي يرتعد وتر الإحساس حين الإصغاء لصوته ونشيجه، وعلّي أجد أن القليل من استطاع أن يقدم أغنياتهم لصعوبتها، والأحرى قلما من يستطع تأدية الأغنيات العراقية لشدة صعوبتها البلاغية، وكذلك لصعوبة العرب والمقام والقرار ووصول الأحساس وتأدية الموال الذي أكثر قوة وقوة، أي أخفق الكثير من الفنانين في تناول هذا النوع، وأبدع القليل في تأديته.
إذًا الأغنية الخليجية ليس كما يعتبر البعض وليس ذاك الركود الذي توصل له الفن ليس مظهًرا وشكلًا، إنه إرث طربي عريق لا يقوى عليه سوى الأصوات العظيمة التي فشل الكثير في مباراتها.
وإليك بعض الأسماء التي غنت الطرب الخليجي: محمد عبده، ميحد حمد، طلال مداح، عباد الجوهر، نبيل شعيل، أحلام الشامسي، عبد الله الفرج الدوسري، عبد اللطيف الكويتي، ذكرى محمد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست