يعد هذا الكتاب من الكتب المهمة التي قامت بدراسة وتحليل المجتمع العربي عن طريق فهم شخصية الفرد العربي، ودراسة الأسباب التي شكلت شخصيته، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات للكاتب الفلسطيني د. هشام شرابي، نشرت في مجلات عربية مختلفة عام 1974م، وسأحاول في هذا المقال تقديم صورة ملخصة لأهم الأفكار الموجودة في هذا الكتاب.

المقدمة:

يتحدث الكاتب في المقدمة عن الظروف التي أدت لكتابة هذا الكتاب، ويتحدث عن ما نستطيع تسميته بالمنعطف الحاسم في حياة الكاتب، وهي حرب النكسة في 67، فيقول: «كانت سنة 67 بالنسبة لي بداية مرحلة جديدة من حياتي، أخذت فيها بإعادة النظر جذريًّا بمواقفي الفكرية والسياسية السابقة جميعًا، وكان ذلك نتيجة لالتقاء سنواتي الأربعين بصدمة الخامس من حزيران».

دفعه هذا التغير ليصبح أكثر ثورية وأكثر اندفاعًا، ويقول عن نفسه إنه عندما كان يحضر لإلقاء محاضراته في جامعة جورج تاون بأمريكا عن تطور النظرية السياسية والاجتماعية في أوروبا، أعاد قراءة الأفكار الماركسية من جديد، يقول عن تجربته في هذا الصدد، إنه كان ينظر إلى كارل ماركس على أنه مجرد مفكر أوروبي، وأن معظم أفكاره حول انهيار النظام الرأسمالي أثبت التاريخ فشلها، ولكن هذه المرة كانت نظرته مختلفة، فقد استطاع ماركس النفاذ إلى أعماق أفكاره وجذبته نظريات ماركس في علم الاجتماع، يقول إن من نتائج تلك التجربة أنها كشفت له عن مقدرة الثقافة المسيطرة في تكوين عقلية الفرد وإخضاعه لقيمها، وتضليله على أعمق المستويات. وأدرك أن الخطوة الأولى نحو تحرير الإنسان من تلك الثقافة المسيطرة، تكمن في التحرير الذاتي.

اهتم الكاتب في كتابه بتحليل ودراسة المجتمع العربي لمعرفة أسباب انحطاطه وتدهوره، واعتمد بشكل كبير على التحليل النفسي، ودراسة تطور الفرد في هذا المجتمع منذ طفولته وحتى نضوجه، وينقسم الكتاب بعد مقدمته إلى خمسة فصول.

الفصل الأول:

يتحدث الكاتب في هذا الفصل عن العائلة ودورها في تكوين شخصية الطفل، وهو يعتبر أن هذه المرحلة من مراحل الإنسان هي أهم مرحلة من مراحل حياته، وهي التي تترك الأثر الأكبر فيه بعد ذلك، وعملية تربية الطفل مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه وبالأعراف والتقاليد السائدة، أي إن تربية الطفل هي حلقة الوصل التي تنقل كل تلك العادات والتقاليد المجتمعية بشرها وخيرها من المجتمع إلى الطفل، كما أن الآباء يربون أطفالهم على ما تعلموه من آبائهم وما تناقلته الأجيال، وليس عن علم ومعرفة بحقيقة تطور الأطفال، وما يحتاجونه من رعاية حقيقية لكي يصبحوا أشخاصًا ذوي مسؤولية في المجتمع عندما يكبرون.

يورد الكاتب العديد من الأمثلة على أساليب التربية الشائعة والمنتشرة في المجتمعات العربية، وأهمها أسلوبا العقاب والتلقين، ويرى في النهاية أن مثل هذه الأساليب تمثل تحالفًا بين المجتمع والعائلة، وتمثل وسيلة أساسية تلجأ إليها الثقافة الاجتماعية المسيطرة للإبقاء على عادات المجتمع وتقاليده، وبالتالي تمثل ممانعة محصنة ضد أي عملية تغيير أو نهضة أو تطور.

الفصل الثاني:

يتناول الكاتب نتائج التربية البرجوازية وانعكاساتها على شخصية الفرد، ومثلما قال ماركس بأن الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج عبر التاريخ هي التي تحدد ثقافة ودين وعادات وتقاليد المجتمع، فقد انصب تركيز الكاتب على فهم طبيعة هذه الطبقة من خلال تحليل شخصية الفرد البرجوازي في المجتمع العربي، وقد استنتج الكاتب أن السمات المميزة لهذه الشخصية هي: الاتكالية، والعجز، والتهرب.

وتتحمل التربية أسباب صنع هذا الفرد الذي يشعر بعدم القدرة على التغيير والعجز والاتكالية، فعندما يكون طفلًا فإن أمه تعلمه الاتكالية، وحينما تحصل له مشكلات مع ابن عمه أو جاره وهو طفل، فإنه يفر باكيًا نحو أمه أو أبيه، وبهذا يتعلم من طفولته الاتكالية على غيره في حل مشكلاته، وهو يورد مثالًا في آخر الكتاب لمدى تعامل الأم الأمريكية مع ابنها، وتعامل الأم العربية مع ابنها. (صفحة 105-106)

أما العجز فهو ناتج بشكل رئيسي عن تخجيل الآباء لأبنائهم والتقليل من قدراتهم، فدائمًا ما نرى الأب يعامل ابنه وكأنه لا يعرف شيئًا فلو أراد إصلاح شيء وهو صغير يوبخه ويخبره بأنه عاجز ولا يعرف إصلاحه، كما وأنه عندما يكون طفلًا فإنه يولد معه دافع فضولي للتعرف إلى الأشياء مثلما يفعل الأطفال دائمًا، ومع الصد وأحيانًا التوبيخ وربما العقاب، يموت هذا الفضول في نفس الطفل ويشعر بعجزه وعدم مقدرته على حل أبسط المشكلات، فتجده وهو كبير لا يفعل شيئًا دون أن يستشير أباه وأهله، حتى في أموره الشخصية كالزواج والدراسة والعمل وغيره.

إن هاتين السمتين، أي «الاتكالية والعجز»، توديان إلى التهرب، فعندما يدرك الواحد عجزه واتكاليته، يدرك أنه مجرد فرد ضعيف خاضع لسلطة من هو أقوى منه، الأب في الطفولة، والأستاذ في المدرسة، والسلطة الاجتماعية كالأعراف والتقاليد أو السلطة السياسية، فيدرك خضوعه لها وعجزه عن التغيير، ولعل هذا يفسر تقاعس المثقفين عن دورهم في التغيير الاجتماعي.

الفصل الثالث: «الوعي والتغير»

تكمن الإشكالية الكبرى في التغيير عند الكاتب، في ذلك التلاحم الكبير بين العائلة والمجتمع، فلا يمكن تغيير العائلة إلا بتغيير المجتمع، ولا يمكن تغيير المجتمع إلا بتغيير العائلة، فالاثنان مترابطان بشكل لا يقبل التفرقة.

يرى الكاتب الحل من هذه المشكلة في ثلاثة أمور، النقد الذاتي، والمعرفة النقدية، والوعي الاجتماعي.

إن علينا القيام بعملية نقد مزدوج، نقد الواقع الاجتماعي، ونقد النموذج الغربي، والتخفيف من الانبهار به الذي أعمى مثقفي عصره، وهنا يؤكد الكاتب أن النموذج الغربي في عقول المثقفين العرب ليس مثلما هو على الواقع الغربي، فهناك الكثير من المشكلات التي تحيط بالمجتمع الغربي، إضافة إلى أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار الفروقات بين المجتمعين، في العادات والتقاليد والثقافة والدين، مما يجعل تسليط النموذج الغربي – بدون نقد يظهر محاسنه ويبعد شره – على العرب أمر صعب التحقيق وربما مستحيل.

أظهر الكاتب في هذا الفصل نقدًا مكثفًا للنموذج الغربي، وإظهار مثاليته وإشكالياته (ص82-84).

بعد ذلك انتقل للحديث عن المعرفة النقدية، وقال: «لا يستطيع المجتمع الذي يرمي لتغيير ذاته النجاح في هذه العملية، دون أن ينفذ أولًا إلى عملية معرفة الذات، فالمعرفة الذاتية هي الشرط الأساسي للتغير الذاتي، في الفرد كما في المجتمع. ولا تكون هذه المعرفة مجرد معرفة نظرية، بل معرفة نقدية قادرة على اختراق الفكر السائد والنفاذ إلى قلب القاعدة الحضارية التي ينطلق منها سلوكنا الاجتماعي، وينبع منها سلوكنا وقيمنا وأهدافنا. والوعي الصحيح هو الوعي النقدي القادر على كشف الواقع وتعريته وإظهار قاعدته الحضارية. ولا يمكن تغيير الواقع إلا بكشف النقاب عن حقيقته، وما عملية الكشف هذه إلا عملية المعرفة النقدية الهادفة إلى تغييره».

ويرى أن المشكلة تكمن في ما يسميه بالمعرفة الدفاعية، حيث اشتغل المثقفون والمفكرون العرب في عصر النهضة، على الاهتمام بالتاريخ وتزيينه، وإظهار الأمجاد الغابرة، وهي طريقة للدفاع عن النفس في مواجهة نهضة الآخر وتقدمه وتفوقه، ومحاولة درء الخطر عن الذات بدلًا من معرفة الذات ونقدها لمعرفة أسباب التخلف.

الفصل الرابع: الإنسان العربي والتحدي الحضاري

يرى الكاتب أن هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من الاهتمام بها، ولا بد من تغييرها، لأن بتغييرها يحدث التغير المجتمعي والنهضة الحضارية:

1- علاقتنا بأطفالنا

2- علاقتنا بالمرأة

3- علاقتنا ببعضنا البعض.

علاقتنا بالأطفال:

الخمس والست سنوات الأولى من حياة الأطفال هي التي تحدد شخصية الإنسان طول حياته، ولهذا فإن عملية تربية الطفل وتثقيفه خلال هذه السنوات أمر حاسم بالنسبة للفرد، وبالتالي للمجتمع.

وقد شرح الكاتب في الفصل الأول والثاني، علاقة التربية بتكوين الفرد، وأهم السمات التي تكون شخصيته نتيجة هذه التربية، الاتكالية والعجز والتهرب، أي إنها شخصية تتميز برضوخها للسيطرة (سيطرة الأب، سيطرة القبيلة، سيطرة المجتمع، سيطرة السلطة)، وبتهربها من المسؤولية، واتكاليتها.

إن خطر التربية الأكبر يكمن في أنها تجهز الفرد من طفولته للرضوخ لقيم المجتمع الذي يعيش فيه، وللخضوع له والتماهي معه، فالتربية إن صح التعبير هي أجندات المجتمع لصنع أفراد خاضعين له وراضين به، وبالتالي تمثيل ممانعة ضد تغييره.

علاقتنا بالمرأة:

باختصار شديد، بتحرير المرأة يحدث تحرير المجتمع، والعكس صحيح فمستحيل تغير المجتمع العربي ما دامت المرأة في وضعها الراهن، ولذلك لأنها هي التي تصنع الإنسان العربي، يقول الكاتب:

«إننا لا نعرف حقيقة وضع المرأة في مجتمعنا، ونحن بشكل لا شعوري نرفض مجابهة هذه الحقيقة ونتناساها، وبالتالي نسدل الستار على أهم مشكلاتنا الاجتماعية، وأكثرها تعقيدًا. لكننا إذا كنا جادين في مجابهة التحدي الحضاري وفي بناء مجتمع جديد في هذا الوطن علينا قبل كل شيء أن نعيد إلى نصف هذا المجتمع إنسانيته الكاملة».

لم يحلل الكاتب في هذا الكتاب شخصية المرأة، ولذلك فأنا أنصح بالعودة لكتاب «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» لمصطفى حجازي، وتحديدًا الفصل الأخير (وضعية المرأة)، ففيه تحليل وافٍ.

علاقتنا ببعضنا البعض:

تتميز شخصية الفرد في المجتمع بالنزعة الفردية، أي إن الفرد الذي يخرج من هذا الكبت الاجتماعي، والتربية المتسلطة، تولد فيه نزعة فردانية، فتجعله لا يقيم وزنًا لمصلحة المجتمع واحتياجاته، وإنما يقيم وزنًا فقط لمصلحته ومصلحة عائلته، ولعل هذا يفسر إقبال الشباب في المجتمعات المقهورة على تخصصات الطب والهندسة، وبعدهم عن تخصصات مثل الفلسفة وعلم النفس والقانون والعلوم السياسية وغيرها، فلأن التخصصات الأولى تعبر عن رغبة العائلة، كما أن فيها تتمثل النزعة الفردية التي تبحث عن مصلحة الشخص، فهذه التخصصات تجلب الكثير من المال الذي يجلب بدوره استقلال الفرد وانكفاءه عن دوره الحقيقي تجاه المجتمع.

كما أن علاقات الفرد في هذا المجتمع تحددها ظروف اجتماعية، أكثر من أن يحددها قيم عليا يؤمن بها، فالعلاقات التي يسعى الفرد لتكوينها تقوم على أساس المنفعة والمصلحة الشخصية سواء في نطاق العائلة والعشيرة، أو في نطاق المجتمع.

ولتحقيق مجتمع إنساني تسوده القيم العظيمة، فلا بد من أن تقام العلاقات على أساس التعاون والتكافل والأخوة، وترتبط فيه مصالح وأهداف الأفراد، بمصالح وأهداف المجتمع.

التحدي الحضاري:

ببساطة يرى الكاتب أن تاريخنا الحديث منذ النهضة هو في صميمه حلقات من ردود أفعال متتالية على التحدي الغربي، يمثل الغرب ذاك الآخر، الذي يشكل بالنسبة لنا تحديًا مستمرًّا، فالغرب قضية محورية بالنسبة للمثقف العربي، فساعة يظهر العربي بافتخار أنه هو من كان سببًا في النهضة الغربية، وأن العلوم والمعارف العربية هي السبب في نشوء ونهضة المجتمع الأوروبي، فيرجع إلى ماضيه ويتحصن به في مواجهة هذا الغربي النهضوي، وتارة يحاول أن يستمد من الغربي أسس النهضة بلا شرط أو قيد، بخيرها وشرها.

وإذا استطاع العربي أن ينتزع بعض حقوقه المسلوبة من الغربي «الاستقلال والتحرر من الاستعمار»، فإنه لا يزال على الصعيد النفسي والحضاري خاضعًا له. أننا عندما نستخدم كلمات مثل «مدنية» و«حضارة» فإننا نقصد المدنية الغربية والحضارة الغربية، وهذا ما يظهر شعورنا بالنقص تجاه الغربي، ففي الحقيقة عندما نتحدث عن أننا كنا سببًا في نهضة الغرب فإن هذا القول في باطنه يعد شعورًا بالنقص والعجز تجاه الغرب ومحاولة التعويض عن هذا الشعور بإيجاد صلة مشرقة تربطنا بالغرب ولو من زاوية تاريخية مجردة.

إن رد الفعل العربي تجاه الغربي كان على صورتين: الأول اتجاه التجديد على النمط الغربي، والاتجاه الثاني نحو العودة إلى الماضي والتراث القديم والمحافظة على التقاليد، وكلا الاتجاهين اصطدما بطريق مسدود، لأنهما عبارة عن رد فعل ثقافي مجرد في محتواه ومفاهيمه، ولم يستطيع مواجهة الغرب من الناحية العملية والحسية.

وفي المقابل فإن نظرة الغربي نحو العربي – هي حسب رأي الكاتب – نظرة السيد إلى المسود، فقد جاء هذا الغربي بمصالحه ومطامعه، وفي سبيل تأمين مصالح الغرب ومطامعهم كان الثمن الذي دفعناه هو بؤسنا وشقاؤنا وتخلفنا.

ومن الأمثلة الطريفة التي يوردها الكاتب، أن الجزائر بعد الاحتلال الفرنسي كانت تجارة الخمر هي الإنتاج الأكبر فيه، هذا في بلاد حرم على أهلها شرب الخمر، وفي حين كان يجني الفرنسيون الأرباح من هذه التجارة، كان الشعب الجزائري لا يملك لقمة خبزه.

إن الاتجاه الصحيح في تعاملنا مع التحدي الحضاري، وفي نظرتنا نحو الغرب هو مثلما يقول الكاتب:

«إن الإطار الصحيح هو الذي يكشف لنا معنى التحدي، ويظهره على حقيقته، أي على أنه تضارب تصادمي في المصالح والقيم والأهداف». ص124

ويوضح فكرته بقوله «هذا لا يعني أننا نرفض الغرب وثقافة الغرب وعلمه بدون قيد ولا شرط. أقول لا مانع إطلاقًا من أن نتعامل مع الغرب وأن نستمد منه نماذج وأفكارًا وموادًا لإنعاش الحياة الاقتصادية، وإعادة تنظيم مجتمعنا، واحياء ثقافتنا العربية شرط أن يكون ذلك على أساس مساواة الند للند، ولذلك فإن الشرط الأول لمجابهة التحدي الحضاري هو التغلب على شعورنا بالنقص تجاه الغرب».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد