جلست أمام قناة مجهولة في التلفاز وبدأت أقرأ شريطها الإعلاني السفلي الذي يدعو المشاهدين للاتصال بالعلماء الروحيين حتى يساعدوهم في حل مشكلاتهم الدنيوية العويصة وهي: (جلب الحبيب – فك السحر – حل مشكلة العنوسة – فك الربط وهو عدم القدرة على مواقعة الزوجة – التحصين من الجن – علاج المس الشيطاني – رد المطلقة – التعجيل بالإنجاب – شفاء المرضى – سعة الرزق)… وبالطبع لم ينس الإعلان تذكيرنا بأن هؤلاء العلماء أهل تقوى وصلاح ودين.

لم يكن ما يؤلمني من هذا الإعلان أنه يستغل الفقراء والجهلاء والمحتاجين بقدر ما كان يؤلمني أن هذا الإعلان يربط أولا بين الدين وهذه الخرافات، وأنه يربط بين العلم (بتسمية الدجالين علماء روحانيين) وهذه الخرافات. ولن أبالغ في تقدير خطورة هذه الإعلانات ولكني أشير إلى مدى انتشار مثل هذه الأفكار بين الناس حتى أني وجدت من بعض أهل العلم والدين والثقافة من يدافعون عن صحة هذه الخرافات كأنها حقائق مطلقة.

بداية لابد أن أشير إلى أن الدين يحتوي على قضايا وراء المادة وأخرى مادية دنيوية، والخلط بينهما يؤدي في الغالب إما إلى الإلحاد أو الخرافة، فالملحد يجد قضايا ليس لها إثبات علمي مادي، ولأنه يُعْلِي من شأن البرهان المادي فإنه لا يستطيع قبول ما لا يمكن إثباته ماديا، وأهل الخرافة يعتقدون أن القضايا الدنيوية المادية يمكن الحكم عليها والتحكم فيها من خلال الأفكار الماورائية التي لا تخضع للأسباب والقوانين العلمية المادية.

وبهذا وجدنا من يتهم الدين أنه ضد العلم، ووجدنا من يتمادى في تصديق الخرافات ويعتبرها حلولا أكيدة للكثير من المشكلات التي تواجهنا، وفك الاشتباك هنا يكمن في أن نفرّق بين الأمور الإلهية اللامادية والتي هي بالتأكيد لا تتدخل في دنيانا وقضاياها، وبين الأمور الدنيوية التي أخضعها الله لقوانين مادية من خلقه وصنعه وجعلها تسير وفق قواعد ثابتة تضمن العدالة ومساواة الجميع أمامها بغض النظر عمَّن يؤمن ومن يكفر.

وللأسف فقد وجدنا من رجال الدين من يخالف الحقائق العلمية الأكيدة الحاكمة لدنيانا باسم الدين، فوجدنا من يدعي أن الأرض ثابتة لا تدور وأن السحر يمكنه أن يؤثر في الإنسان وأن الجن يستطيع أن يتحكم في الإنسان ببعض التعاويذ، ومن ذهب إلى جواز أكل لحم الجن، وأن قيادة المرأة للسيارة تؤثر على مبايض المرأة، ومن يطالب الناس بالعلاج ببول الإبل، وكل هذا وغيره أساء للدين إساءة بالغة أظهرته بأنه يخالف العلم الذي يحمل حقائق يقينية يمكن إثباتها.

وهذه المشكلة لن نستطيع تجاوزها قبل أن يتسم تفكيرنا بالتفكير العلمي في القضايا الدنيوية حتى وإن عرضها الدين، وأن لا نحكم على قضايا ما وراء المادة من خلال القوانين العلمية التي لا تملك الأدوات المناسبة للحكم على مثل هذه القضايا وإلا فكيف يمكن إثبات وجود الله أو الملائكة من خلال المختبرات العلمية وقوانينها؟

ولأن أغلب مشكلاتنا في هذه الحقبة التي نعيشها هي مشكلات دنيوية فيجب أن نتجه نحو أسلوب التفكير العلمي كي ننهض بمجتمعاتنا من وهدة التخلف التي قبعت فيها، وأسلوب التفكير العلمي لا يعني أن نصير كلنا علماء نجري التجارب ونقيم في المختبرات، ولكنه يعني استخدام سمات التفكير العلمي في مواقف حياتنا المختلفة.

وسمات التفكير العلمي كما يوضحها الدكتور فؤاد زكريا في كتابه القيّم (التفكير العلمي) هي:

1- التراكمية:

والتي تعني أن الإنتاج العلمي كالبناء الذي كلما انتهى البناؤون من بناء دور فيه انتقلوا للدور التالي له، وبالتالي تكون الحقائق العلمية نسبية قابلة للتطور والتغير، وهي مع ذلك تتجاوز مشاعر الأفراد وعقولهم الفردية لتخضع إلى الحقيقة اليقينية فقط، وبالتالي يمكن وصفها باليقينية رغم نسبيتها، وأن الحقيقة العلمية في إطارها الخاص تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وهذا التراكم يُضاف فيه الجديد إلى القديم ليقلل من المساحات الضبابية التي تشغل الإنسان فتنكشف له في حياته المزيد من الأماكن المجهولة المظلمة.

2- التنظيم:

فالأفكار لا تسير حرة طليقة، وإنما نرتبها بطريقة محددة من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، ويجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وبالتالي فإن هذا يخلصنا من مشكلة التبرير الدائم لأفعالنا حتى نريح ضمائرنا أو لنبقى في دائرة الأمان رافضين كل جديد لمجرد أنه يخالف ما اعتدناه، في حين أن التفكير العلمي يساعدنا على تنظيم أفكارنا للوصول إلى النتائج الصحيحة حتى وإن خالفت ما اعتدناه أو ما نريده.
وهذا التنظيم يفرض على من يريد التفكير تفكيرًا علميًا أن يُخْضع تفكيره للمنهج العلمي حتى يمكنه أن يصل للحقيقة العلمية، فيختار الاختيارات الصحيحة لمشاكله الدنيوية وهذا المنهج العلمي يمر بالمراحل الآتية:

أ- ملاحظة الظاهرة وجمع المعلومات.

ب- مرحلة التجريب للوصول إلى القوانين الجزئية المتعلقة بالموضوع.

جـ – تجميع القوانين الجزئية السابقة لضمها إلى نظرية واحدة.

د- الاستنباط العقلي حيث ينطلق من النظرية مقدمة يستخلص منها بأساليب منطقية ورياضية ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، ثم يقوم بعمل التجارب للتأكد من صحة هذه النتائج.

3- البحث عن الأسباب:

وهي السمة الثالثة من سمات التفكير العلمي حيث لا يكون النشاط العقلي للإنسان علما إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها، وهذا يجيب على هؤلاء الذين يلجؤون إلى الدجالين لحل مشكلات كالعنوسة مثلا والذين يهربون من هذه المشكلة بدلا من التفكير في الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة حتى لا يضطروا إلى تغيير طريقتهم في الحياة، فلا يكونون في حاجة لتقليل المهور أو تغيير نمط الزواج وتجهيزاته لتظل لهم القدرة على (الفشخرة) بما يكلفون به هذه الزيجات التي لا يجدونها.

4- الشمولية واليقين:

فالحقيقة العلمية شاملة بمعنى أنها تصدق على كل أمثلة الظاهرة التي تمثلها، فإذا قلنا بحقيقة علمية هي (الجاذبية) فهذا معناه أن هذه الحقيقة تصدق على كل جسم تتوافر فيه الصفات التي تجعله خاضعا لقانون الجاذبية، والحقيقة العلمية يقينية بمعنى أنها تفرض نفسها على العقل بأدلة وبراهين لا يمكن تفنيدها. ولا يعني هذا ثبات الحقيقة العلمية ونهائيتها حيث أن العلم لا يعترف بحقائق صالحة لكل زمان ومكان حيث أن هذه الحقائق لا تعلو على التغيير مادمنا قادرين على إثبات التغيير بالأدلة والبراهين.

5- الدقة والتجريد:

فالعلم لا يقدم عبارات غامضة أو غير دقيقة، وإنما يقدم حقائق قابلة للقياس ولذلك فإن العلم يلجأ إلى لغة الرياضيات للتعبير عن حقائقه أو لغة الرموز والأشكال.

وبالتالي فإن على من يريد أن يستخدم التفكير العلمي في حياته أن يلجأ لهذه السمات كي يحوّلها إلى تطبيقات في حياته للحكم على الظواهر الدنيوية، فلا يقبل التفسيرات الخرافية، ولا يلجأ إلى التبريرات الواهية ليجعل لاختياراته ومواقفه مصداقية، وسيكون الدين هو أول مستفيد من ذلك لأنه سيتخلص من تلك التفسيرات التي تضعه في موقف حرج في مواجهة العلم تجعل البعض يرى أن خلاص مجتمعاتنا من قيود التخلف هو ترك الدين بالكلية في الوقت الذي يعلن فيه الدين احترامه للقواعد العلمية ويحث أتباعه عليها كما يحثهم على عدم خلط الأوراق كي لا يغرهم العلم فيجعلونه حاكمًا على عالم ما وراء المادة، ولهذا موضع آخر بإذن الله.

سمات التفكير العلمي في كتاب (التفكير العلمي) للدكتور فؤاد زكريا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

سمات التفكير العلمي في كتاب (التفكير العلمي) للدكتور فؤاد زكريا.
عرض التعليقات
تحميل المزيد