ظاهرة شدّت الأنظارَ منذ عقودٍ، لُقّبت قديمًا بوفاةِ القلبِ الكَسيرِ.. لقبٌ لم تطرب له آذان العِلم فشرعَ في البحثِ عن بديل.
في مطلعِ سنة 1987 نشرَ باحثون نتائج دراسةٍ أجريت في فنلندَا مفادهَا أن معدّل الوفياتِ يربُو على الضّعفينِ لدى الأراملِ خلال الأسبوعِ الأوّل بعد رحيلِ الزوجِ أو الزوجةِ مقارنةً بالمعدّلاتِ المتوقّعة. نتائجٌ أخرى نُشرت سنة 1995 أكّدت أنّ ارتفاع نسب الوفياتِ يظهر جليًّا بعد مرور سبعة أشهرٍ على الفاجعةِ. وعلى الرّغمِ من كمّ الأبحاثِ التي عضدت فكرة هذا التأثيرِ، إلّا أنّ آليّاتهِ كانت ولم تزل – إلى وقتٍ قريبٍ – لغزًا مُبهما. ما دفعَ فرقًا من الأطبّاءِ لمحاولةِ البحثِ عن خيطٍ لفهمِ هذه الظّاهرة!
تأثيراتُ الحِداد المناعيّة
إحدَى هذه الفرق الطبيّة المهتمّة والتي كوّنها باحثونَ من جامعةِ توسان بولايةِ أريزونا الأمريكيّة قرّرت التركيزِ على تأثير الفقدِ على الجهاز المناعيّ بالتحديدِ. ومن هنا بدأ الباحثونَ بإجراءِ مراجعةٍ منهجيّةٍ للدّراسات المنشورة تباعًا منذ سنة 1977 إلى حينِهم، حيثُ صرّحت الباحثة «ليندسِي نولز» عن بُغيتها والفريق إنشاءَ وثيقة تتضمّن حسبَ تعبيرِها «جميع البياناتِ المنشورة عن العلاقة بين الفقدِ والمناعة بهدفِ إنشاء قاعدة معرفيّة راسخةٍ واقتراحِ اتّجاهات محدّدة تسهّلُ البحثَ في المستقبلِ».
عمليّةُ الاستقراءِ المطوّلة أعقبت بأن انتقَى الباحثونَ 33 بحثًا ممّا حسُنت جودته وتعلّق مضمونهُ بالمبحثِ المطروح. مثال ذلكَ ما نُشر سنة 1994 حولَ اختلالِ وضائف المناعةِ لدَى مستوفيِ المعاييرِ التشخصيّة للاكتئابِ على خلافِ الذينَ لم يستوفوها والذين لم تُظهر تحاليلُ الوظائف المناعيّة لديهم فروقًا تُذكر!
وبعدَ حين خلصَ الفريقُ إلى ورقةٍ بحثيّة نشرتها مجلّة «Psychosomatic Medicine» أوضح فيهَا أنّ خطر الوفاةِ المتضاعفِ لدى الأراملِ أو الثّكالَى يعودُ أوّلًا لارتفاعٍ في مستوى الالتهاباتِ المزمنةِ والمتسبِّبةِ بدورها في الكثيرِ من أمراضِ القلب والشرايينِ وأمراض السكّري وغيرهَا، وثانيًا لخللٍ في التعبيرِ الجينيّ للخلايَا المناعيّةِ، والذي قد يعودُ للاضطراباتِ الهرمونيّةِ الناتجةِ عن الحالةِ النفسيّةِ للفاقدِ، وثالثًا لانخفاضٍ في مستوى استجاباتِ الأجسامِ المضادّةِ للتحدّيات المناعيّةِ. وهو ما قد يفسّرُ جزئيًا الظّاهرة المطروحة!
وبالتّزامنُ مع نشرِ هذا البحثِ، ظهرَ نظيره بمجلّة «Brain Behavior and Immunity» دراسةٌ بقلمِ جينيفر جراهام إنغلاند، أستاذةُ جامعةِ «بنسلفانيَا» بالشمال الشرقي الأمريكي. دراسةٌ شبيهة تطرحُ لا فحسب أثر فقدانِ الشّريكِ، وإنّما أثرَ الإجهاد أو القلقِ أو الحالات المزاجية السلبيّة عمومًا على الاستجابةِ المناعيةِ. لتؤكّدَ من جديدٍ ارتباطَ هذهِ الحالاتِ بتفاقمِ خطرِ الإصابة بالتهاباتٍ قد تتسبّبُ في أمراضِ الأوعيةِ والقلبِ، بل السكتةِ الدماغية.
وتشرحُ الباحثة كيفَ أنّها طلبت من المشاركينَ تسجيلَ الحالاتِ النفسيّةِ التي تمرُّ بهم يوميًّا طيلة أسبوعينِ فيمَا قام الفريقُ الطبيّ المرافقُ بتقييمِ الاستجاباتِ المناعيّة للمتطوّعين عن طريقِ عيّناتٍ دمويّةٍ تُسحبُ منهم للبحثِ عن علاماتِ الالتهابِ. ليخلصُ التقريرُ في الأخيرِ إلى أنّ من عانوا حالات مزاجيةً سلبيّة عدّةَ مرات يوميًا ولفتراتٍ طويلة، حصّلوا مستوياتٍ أعلى من مؤشرات الالتهابِ. هذا ويُلاحظ أنّ هذه المؤشّراتِ تكونُ في ارتفاعٍ إذا ما التُقطت العيّنات إثرَ فترةٍ وجيزةٍ من تعرّضِ أصحابِهَا للشعورِ السلبيّ، بينما تنخفظ بوضوحٍ إذا ما مرَّ المتطوّع بمزاجٍ إيجابيٍّ ولو لفترةٍ قصيرةٍ قبل أخذِ العيّنة. وهنَا تجدرُ الإشارة إلى أنّ ما ذُكر قد اتّفقَ للمشاركينَ الذكور دونَ الإناثِ ما وضعَ الفريقَ أمام استفهاماتٍ جديدةٍ!
وتضيفُ الباحثة أنّ ميزة هذا العملِ تكمنُ في انتماءِ المشاركينَ إلى خلفيّاتٍ عرقية واجتماعية واقتصاديّة مختلفةً ما يضفِي عليهِ جودةً علميّة مطلوبة، بالرّغمِ من حاجتهِ الأكيدة لمزيدِ السّبرِ والتعمّقِ.
مكانة الدّراسة
تكمنُ أهميّة هذا البحثِ – رغم عدم شموليّتهِ – في الكشفِ عن أساسٍ فيزيولوجيّ واضحٍ يقوم عليهِ هذا التأثير، ما قد يمدّ طريقًا نحو المساعدةِ في توجيهِ أو تداركِ حالة هؤلاء الأشخاصِ مستقبلًا. إذ تشرحُ مؤلّفة أخرى ضمنَ فريق جامعةِ أريزونا، الأستاذة ماري ماريس أوكونور كيفَ أنّ البحث قد يمكّن الأطبّاءَ يومًا ما من تتبّعِ التغييراتِ الطارئةِ على الجهازِ المناعِيّ للمرضَى ومن منعِ مضاعفاتِها بعدَ تجربةِ الفقدِ المريرة!
وعلى الرّغمِ من حجمِ الجهودِ الوافرةِ للتقصّي في هذا المجالِ وامتدادِ هذه المساعِي تاريخيّا، إلّا أنّ ثغرات عديدة ما زالت لم تُسد، ما يؤكّد الحاجة الماسّة لبحوثٍ حديثة تتطلّبُ الكثير من المواردِ – وِفق الباحثينَ – كتجربة تقييمِ الحالة المناعيّة للفردِ قبل حادثةِ الفقد وبعدَها طيلةَ فترة ممتدّة، ما سيضفِي على الدراسةِ مزيدًا من العمقِ والثبوتِ. دورٌ يأمل الباحثونَ أن لا يتخلَّف عنه الخلفاءُ الجدد!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست