استفهام قد يكون باعثًا على الضحك والسخرية عند المطالعة الأولى؛ فمن هذا المعتوه الذي يدفع من كيسه كيما يشتري كذبًا؟ بيد أنه حال تأمل كلماته ثانية وثالثة واستقراء مناطه الذي يحمله في ثنايا كلمه، ومن ثم إسقاطه على واقع الحال ومحاولة استخراج الإجابة الشافية له، لربما تعرف أنه ليس مجرد صيغة استفهامية، بل صفعة مدوية على جبين النفس البشرية.
ليس من الضروري أن يحوي الكيس – الذي تدفع منه ثمن بضاعة أنت نفسك لا تعرف بحقيقة فعلك معها ليل نهار – مالًا؛ فلربما المدفوع شيئًا آخر أو أشياء أخرى هي الأعلى قيمة والأكثر أهمية من تلك العملات أداة البيع والشراء المتعارف عليها.
صناعة الحالة
فما بين معروض ومطلوب من أجل تخليق حالة بعينها (إيهامًا أو إقناعًا) تقف الكلمات مشوشة ومتردة على الشاشات الأخلاقية المتواجدة بكل ركن في سوق تداول الكذبات إلى أن يتخذ صانع الحالة قراره، ويصدر الأمر بالتنفيذ للكذبة التي تهيئ السبل لها، وتضمن نجاحها في تحقيق مبتاغها الذي يخدم بالأساس قرارات مصيرية تخصه وحده.
التاريخ نتاج ملون لأحبار كاذبة
مَنْ منا لم يستمع أو يقرأ خطاب التنحي الذي ألقاه الرئيس جمال عبد الناصر على جموع الشعب المصري بعد نكسة 1967؟
من المؤكد أن جميعنا قد تعرض لهذا الخطاب اضطرارًا أو حتى طواعية ولا شك أن انفعالنا الحسي قد جاء على المستوى المطلوب من هدف الخطاب المكتوب بعناية لغوية حسية فائقة قادرة على استدرار دمع ملقيه قبل متلقيه، بيد أنه ستلعن ذاك الحس الذي استُنفر منك على حين خديعة وقتما تدرك أنه لم يكن إلا كذبة اشترى بها عبد الناصر وقتذاك بقاء سلطوي متفرد لحكمه العاجز عن تحقيق أي انتصار يذكر في معركة يخوضها مع عدوه، وبالرغم من كونه الشاري إلا أنه لم يدفع الثمن من كيسه هو، بل دفعه من هتافات المصريين أنها تستجدي بقاء من يستحق الشنق على أعتاب كرامة الأمة المصرية المهدرة وقد غلقت أفهامها وعميت أعينها عن نكسة ما جلبت لها إلا عارًا واجترت بعدها استبدادًا لأعوام تلت هذه الخطبة الكذوبة.
أنا لا أكذب ولكني أتجمل
التنمية البشرية درب جديد من دروب الكذب حتى وإن تعددت الحلل التي ترتديها باسم شهادة من جامعة كذا الأمريكية وتلك البريطانية، فمهما تجملت لا أراها إلا خداعًا وكذبًا. طالعت محاضرة لأحد هؤلاء المنتسبين لهذا الدرب، فإذ به يحدث حركات بهلوانية، ويتحدث بطريقة أقرب للبلاهة منها إلى الطفولة، وحين علمت أن سعر المتدرب الواحد في مثل هذه الدورات قد يتجاوز الثلاثة آلاف جنيه، راودني السؤال.. ماذا لو طلب أحدهم من أمه أو أبيه أو حتى صديقه نصيحة فأجابوه: ادفع أولًا. في حين أن ثلاثتهم يفعل ذلك بشكل يومي بحكم الأواصر التي تربط جميعهم والمواقف التي تمر بهم، ولكن ألم يكن سيتهمهم بالجنون إن فعلوا، في حين أنه قد يدفع آلافًا عن طيب نفس ودون تفكير في كذب وهراء ووهم قد اتخذ من العلم الاجتماعي مظلة اسمها التنمية البشرية، وقبيل اسمه هو دال لا تساوي مدادها المكتوبة به.
«نحن نكذب لنجمل الوقائع، ثم نقنع أنفسنا بعد ذلك بالصدق؛ فيكون الكذب مضاعفًا، والتضعيف قابل للاطراد».
مقولةٌ جاءت في روايتي على لسان أم قد اغتصبت مرتين، لا حيلة لها أمام واقع ابنتها المؤسف التي لا تعرف لها نسبًا؛ فيقنعها المحامي بضرورة نسبها لمن استطاعوا أن يستخلصوا منه عقد زواج عرفي، رغم عدم تيقنهم من حقيقة النسب، وعزاؤهم في ذلك ضرورة استخراج شهادة ميلاد لطفلة تريد اللحاق بركب التعليم كأي طفلة قد بلغت عمر السابعة مثلها، حاملة اسم أب في شهادة ميلادها، إن هذه الأم لكم استنزفت من كيسها وجعًا وقهرًا وهي تكذب لأجل سعادة ابنتها حتى ولو كذبًا وزورًا.
إننا وعلى مدار تعاملاتنا اليومية الحياتية متواجدون في سوق الكذب إما باعة وإما مشترون دون أن نعد لذلك أو نحسب له في جله، فالتفاوت النسبي في النتائج الجمعية لحجم الكذبات وتأثيراتها ومآلاتها لتضع البعض في ركن قصي يبدو وكأنه منزهًا ولم يطء سوق الكذب قط في حين أنه بداخله تارة يمشي على استحياء وأخرى يصول ويجول.
إن تحرير سعر الكذب دون رابط يقيمه أو يضع لتفاقماته سقفًا لا يتجاوز حده، جعلنا نتعايش معه دون امتعاض، ربما نبدي بعضًا من سخرية هزيلة حياله من حين لآخر، لكننا بالأخير نتعامل معه؛ وهنا لإلف العادة دور بارز في ذلك، فما كنت تنبذه بالبدء أو حتى يأخذ بناصية إعجابك يتساويان دون أسف؛ فالمبصر العاجز عن إقناع قبيلة العميان التي يعيش معها أنه هناك ما يسمى بحاسة الإبصار، ولكنهم يفتقدونها ليعتاد على إغلاق عينيه مثلهم منضمًا إليهم بكامل إرادته تحت مظلة العمى الاختياري الذي ارتضاه إلا إذا جاءه من ينتشله من تلك الكذبة التي أوهم نفسه بها بعد يأس.
صفعة واحدة لا تكفي!
لم يعد السؤال بكم اشتريت كذباتك اليوم؟ مؤلما حال صفعه، فقد أفرزت الإجابة عنه أسئلة أخرى أكثر حدة، وأعلى صوتًا في تواردها على النفس تبغي الإفصاح، فالمعضلة لم تعد في بكم اشتريت؟ بل تعدته إلى بكم بعت كذباتك اليوم؟
والأدهى من إدراكك لحيثيات البيع والشراء، هل كنت مبصرًا الثمن المنقود منك وإليك، أم تغاضيت وكنت من العميان لا تبغي إبصارًا؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست