دخلت أعوده ودار الحديث بيننا – كعادة كل المصريين – عن مدى المعاناة التي لاقاها صديقي المريض في مستشفيات الحكومة ومدى الإهمال والاستهتار، الأمر الذي لجأ معه لعيادة الطبيب الخاصة حيث يأخذ العذاب منحى آخر، عذاب مادي مقابل الخدمة المتميزة، وسرعان ما أسرعت يد صديقي إلى كيس العلاج بجواره وأخرج الروشتات ذات الأسعار الفلكية التي فاقت حدودها كل وصف وعقل.

كان ردي تقليدي بأن سلامتك بالدنيا، وأن المال يروح ويأتي، ثم دعوت له بالشفاء ووجدتني أداعبه وأواعده أنه حين تماثله للشفاء له عندي «كيلو كباب» فإذا بصديقي المتعب تتهلل أساريره وتبرق عيناه لهذا العرض المغري، وأحسست أن الدعابة وقعت منه موقع الجد، فخرجت من عنده وأنا أتهيأ لشراء كيلو كباب قريبا، تلك الوجبة الأغلى والأفخم في مصر.

كان لزامًا علي أن ألم بخيوط مشروع شراء الكباب، لأن الكباب في حياة المصريين الحاضر الغائب، فبدأت أسال كل من أعرفه ويجمعني به لقاء عن: سعر كيلو الكباب الآن؟ وفوجئت أن كل من سألتهم قاطبة لا يعرف! نعم الجميع لا يعرف، الغني والفقير، المثقف والجاهل، المدني والقروي، وكانت دهشة مروعة ونادرة فريدة، ما هونها علي إلا أنني أنا شخصيا لا أعلم كم وصل سعر كيلو الكباب الآن.

لكن ترى هل قاطع المصريون الكباب، الواقع يشهد بغير هذا، فمحلات الكباب تتناثر هنا وهناك، بل أنا في مدينتي المصرية العريقة عندنا شارع خاص لمحلات الكباب التي تعمل ليل نهار وعلى مدار الساعة، وكل حظي منها أنني إذا سرت فيها أشم رائحة دخان الشواء التي يسيل له لعاب الشبعان قبل الجوعان.

لكنني تنبهت الآن أنني ما فكرت يوما أن أدخل لأحد هذه المحلات وأتناول وجبة كباب لعلمي أن العاقبة ستكون كارثة مالية وخيمة، بل يمكن ألا أجد في جيبي ما يغطي تكاليف هذه الوجبة التي لا أعرف منها سوى أنها غالية أو باهظة الثمن.

بل لا أتذكر أنني أكلت الكباب من عند الحاتي إلا مرة واحدة، كان طلبًا بالهاتف من أحد محلات صديق لي، وكان على سبيل المجاملة لا رغبة في استنزاف راتبي بوجبة لا قبل لي بها.

هذا وإن كان هذا حالي مع الكباب، فأستطيع أن أؤكد أن هذا حال أغلب المصريين الذين يعاني أكثر من نصفهم من وقوعهم تحت مستوى خط الفقر.

لكن أعود لإشكالية وجدلية الكباب التي لم تنتهِ، فإذا كنت أمثل شريحة عظيمة من فقراء المصريين، فهذا لا يعني أن مصر ليس فيها أغنياء، بدليل انتشار هذه المحلات التي تشوي لحم الكباب صباح مساء، بل وصل الأمر لبعضها لأن يكون لها بصمة في تحضير الكباب، حتى بات عشاق الكباب يتباهون بأنه أكل كباب من محل فلان أو مطعم كذا، كدليل على الفخامة والجودة.

وهل كل معارفي أجمعين – على تنوعهم وكثرتهم وتعددهم – فقراء معدمون؟ بالطبع «لا» ففيهم أثرياء وآخرون من ذوي الثراء الفاحش.

إذًا لماذا أنكر الجميع (فقير/غني) صلته بالكباب، وجهله بسعر الكيلو منه؟! ولمن تبيع هذه المحلات التي لا ينقطع دخانها طيلة اليوم وعامة الليل؟!

لقد فشل الفقير في الجواب لفقره وهذا معلوم منطقيًّا وعقليًّا وواقعيًّا، أما الغني فأنكر صلته بالكباب خوفا من «الحسد»! نعم، المصريون من أشد الشعوب خوفا من الحسد، حتى بات البعض يخاف من الكل، ولو تجددت لأحدهم نعمة فأول شيء يفعله إجراءات الحرص كي لا ينكشف أمره، بل لو وقع أحدهم في ورطه وقلت له: «أنت محسود» لسارع في تأييد رأيك، وربما هو فقير معدم أو جاهل أمي ولا يملك أي مقومات ليحسد عليها، ولكنه الإيمان الأعمى بالحسد، رغم أن الكبوات قد تكون من الزلات والتقصير، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]

ولا يرضى الغني أن يشاركك الحديث عن الكباب – مثلا – إلا بعد أن تقدم له تجاربك الشخصية مع محلات الكباب وتنوع خبراتهم في إعداده، حينها يطمئن لك، وتجده دون أن يشعر يشاركك الحديث عن مغامراته في هذا الأمر.

إن المناخ العام في مصر لمن أعجب العجب، فالمصريون يسمون شريحة الفقراء بالجرابيع والأغنياء بالباشوات، ومثار العجب أن كل شيء متوفر، الفول والطعمية للجرابيع، والزبد والعسل للباشوات، لحوم مستوردة تباع بنصف ثمنها تجدها وهي معلقة كالكلب الميت وهذه للجرابيع، ولحوم بلدية وردية محفوظة في ثلاجات عرض باهرة وهذه للباشوات، في مصر يقف الجرابيع طوابير في كافة المصالح الحكومية لقضاء مصالهم والباشوات يقضون مصالحهم بالهاتف، وفي مصر مدارس ومستشفيات ومطاعم للجرابيع، وأخرى تضاهي المستوى الأوروبي للباشاوات.

ثم أعجب من هذا، أن الجرابيع لا يمتعضون ولا يتبرمون ولا ينتفضون، بل يقضون حياتهم بأريحية وتلقائية منقطعة النظير.

وأعجب من هذا وذاك أن الجرابيع مولعون بالخضوع للباشوات، وينزعجون من الحرية انزعاج الفأر من القط، فقتلوا بعضهم البعض، وخرجوا يتغنون بالدماء في أنشودة: «تسلم الأيادي»!

فلك الله يا بلادي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد