هل فكرت يومًا في العلماء المسلمين وإنجازاتهم الضخمة ومؤلفاتهم وابتكاراتهم التي لم يسبق وأن وجدت قبلهم؟ فهل فكرت يومًا كيف كان لديهم الوقت لمثل هذه الإنجازات؟ وتقول في ذاتك قولًا قريبًا من هذا «أحقًا هم بشر مثلنا». والقصص التي تروى عن علمائنا تشبه قصص الأساطير؛ لما فيها من مغامرات كثيرة، فتراهم يقطعون آلاف الأميال لنيل ثمرة العلم. إن الحياة مليئة بالمغامرات والتضحيات، فيمر الإنسان بظروف تجبره التنازل عن أحب الأشياء على قلبه؛ وذلك حفاظًا على استمرار أمور ربما يكون فيها مرارة الخسارة، لكن هذا أفضل الخيارين الذي لا مفر منهما. وللتضحيات أنواع وألوان كثيرة لا مجال لحصرها هنا، حيث سيكون تركيزنا في هذا المقال على موضوع غريب بعض الشيء وطريف في نفس الوقت، ألا وهو تفضيل العلم على الزواج، أو التضحية بكل متاع الدنيا من أجل تحصيل العلم ونشر الفائدة في كل الأزمان.
وقبل البدء في الموضوع نرجع إلى ما ورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية عن موضوع الزواج، وسنرى أن هناك الكثير من النصوص في القرآن والسنة قد بينت أهمية عقد الزواج، وأجمعت الشرائع السماوية على مشروعيته، ويقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» [الروم: 21]. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ». والإنسان يسعى إلى الزواج بدافع الفطرة، وهو حاجة أساسية في هذه الحياة، ويصعب التخلي عنه إلا في أمور تفوقه أهمية وهذا إن وجدت.
فبعد أن بينا موقف القرآن الكريم والسنة النبوية من الزواج، وحاجة الإنسان الفطرية له، نورد سؤالًا يتردد في النفس مفاده: كيف استطاع هؤلاء التخلي عن الزواج؟! أو هل العلم حقًا يعد أهم من الزواج؟ ربما قابلت في حياتك عزيزي القارئ شاب عازف عن الزواج، وأنت متأكد من أنه لا يوجد أي سبب مقنع لهذا الأمر، هي حقيقة لا تستطيع أن تنكرها، لكن هناك أشخاصًا تعرفهم سماعيًا حقّ المعرفة؛ وذلك لما تكفلته المناهج الدراسية في نشر نسائمهم العطرة التي هبت روائحهم الطيبة على أنفاس البشرية محدثة طفرة نوعية لا مثيل لها. والآن عزيزي القارئ أشعر بأن صبرك قد بدأ بالنفاد؛ لتشوقك معرفة من هم الذين تخلوا عن الزواج من أجل العلم! لن أبخل عليك في ذكر عددهم كما أحصاهم الكاتب (عبد الفتاح أبو غدة) في كتابه «العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج» وجاء عددهم 20 عالمًا، ولن يتسع المقام لذكرهم، بل سنكتفي بذكر أشهرهم على الإطلاق، وسأترك لك خيار الرجوع إلى الكتاب لمعرفة المزيد.
ونبدأ بأحد أبرز فقهاء الشافعية الذي اشتهر بكتبه وتصانيفه الكثيرة، ووُصِف بأنه مُحرّر المذهب الشافعي ومهذبه، إنه الإمام يحيى بن شرف الحزامي، المشهور «بالنَّوَوِي» قضى معظم حياته وهو يتَقَوّت صفحات الكتب، وكان – رحمه الله – يمتنع عن أكل الفواكه، مبررًا ذلك بأنها تجلب النوم، لقد كان يتجنب الطعام الذي يسبب الفتور في البدن؛ وذلك لأنه أراد أن يملأ معدته الفارغة بزاد العلم. كُتِبَ عنه الكثير من التصانيف والتراجم التي وصفت أهم أعماله وحياته، وما تزال المكتبات تزخر بها.
ننتقل إلى إمام اللغة العربية ونحوها في عصره، من ترك متاع الدنيا وخدم العلم وأهله، إنه: الحسن بن أحمد، المشهور «بأبي علي الفارسي». ألف الفارسي العديد من الكتب والتي كانت في مواضيع مختلفة، فمنها: في علوم القرآن، وفي علوم العربية بمختلف أنواعها، فترك لنا من ذريته ونسله مصنفاته وكتبه التي مازلت إلى يومنا هذا بارة به تذكره في صفحاتها.
والآن سنتحدث عن إمام المفسرين وصاحب الكتاب الأشهر في التفسير «جامع البيان في تفسير القرآن» المعروف بتفسير الطبري. نعم إنه الطبري محمد بن يزيد أبو جعفر، كان الطبري عازفًا عن الدنيا تاركًا لها ولأهلها، ولقد أحصى تلاميذه الصفحات في مؤلفاته، وكان عددها هائلًا، وقام تلاميذه بحسابها نسبة لعمره، فظهر أنه بعد بلوغه الحلم حتى وفاته بعمر 86، بلغ عدد الصفحات التي كان يؤلفها في اليوم 14 صفحة، ومات مخلفًا ذرية كبيرة من العلم والمؤلفات والتي كانت أدوم تذكيرًا به من النسل والأولاد.
وأيضًا منهم، الذي ما دخل بلدًا إلا واجتمعوا عليه، وتتلمذوا له، وكان علامة نسابة. إنه الإمام: جار الله، أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري، المشهور «بالإمام الزمخشري» أحد أشهر أئمة العلم بالدين، والتفسير، واللغة، والأدب، لقد كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء، وكتب أبياتًا من الشعر في تفضيل اختيار العزوبة على الزواج، وقد التمس فيه العذر لنفسه. وقد بلغت أبناء فكره، وبنات قلمه من الكتب والمؤلفات: نحو 50 مؤلفًا. واعتبر أن مؤلفاته وما خلفه من آثار أبر عليه من الأبناء، وأفضل عليه من الذرية، رحمه الله، كان هذا اعتقاده.
سننهي الحديث في المقال بما يصيبك بالذهول أكثر، وهذه المرة عن أحد أشهر الأئمة على مر العصور، وهو شيخنا وشيخ الإسلام ابن تيمية، فريد العصر علمًا وشجاعة وذكاء، ويقال إن شيخ الإسلام شرع في التدريس والفتوى وهو ابن 17 سنة، وقد بدأ في هذا السن بالتأليف أيضًا. وكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر، فقد خلف شيخنا من أولاد أفكاره وبنات بنانه: نحو 500 مجلد.
لقد عاش هؤلاء العلماء عزابًا، لم يتزوجوا، ولم يَلتفِتوا إلى ملاذ الحياةِ ومُتعها؛ انصرافًا منهم إلى العلم، وذَوَبانًا في خدمةِ الدين والإسلام. فظهرت آثارُ عُزوبتهم، وثمراتُ تَبتلهم وانقطاعهم للعلمِ، فها هي ما تزالُ تُفيدُ الطالبين، وتُغذي العارفين والمتعلمين، مُنذ أولِ كِتاب صَدرَ لهم، ومرورًا بيومنا هذا، فلله درُّهم ما أكثر أبناء فوائدهم وبنات أفكارهم التي ستبقى بارّةً بِهم إلى ما شاء الله من بقاءِ الدنيا والناس.
عزيزي القارئ، أظنّك تقولُ في نَفسِك بأنّ عزوبةَ هؤلاءِ العلماء مَدعاة استغربٍ وتساؤلٍ، وأنت والجميعُ يعلمُ، بأنّ هؤلاءِ العماء يعرفونَ أحكامَ الزواجِ وفضلِه، ومخاطرِ العزوبةِ وَمتاعبِها، وهم لم يدعوا الناسَ ولم يَطلبوا مِنهم أن يتبعوهم بتركِ الزواج. أما باختيارِهم العلم والعزوبة على الزواجِ؛ قد مايَزوا ببصيرتِهم بينَ خيرِ الزواجِ وخيرِ العلم، فرجحَ لديهم خير العلمِ على خيرِ الزواجِ، فاختيارهُم العزوبة على الزواج، ما كان إلا إيثارًا منهُم لِغيرهم على أنفسِهم، ليّفرغوا كل طاقاتهم لخدمة الدين والعلم، وليبيّنوا للناسِ على وجه العمومِ وللشبابِ على وجهِ الخصوص أهمية العلم وغلاءه عند الأجدادِ وشدّة تَعلقهم بهِ؛ فربما تبَثُ الروح من جديد في هممِ الشباب، ويَرجع الخير للناسِ، ويبدأ السباقُ للبحثِ عن زاد العلم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست