دخل الطبيب غرفتها فشعر بنور غريب رغم أن كل الستائر كانت مغلقة، كان وجهها أبيض باهتا جدا، وكانت ترتدي ملابس بيضاء ناصعة، راجع الطبيب ملفها الطبي، ففوجئ بحالة غريبة لم تمر عليه سابقا، لقد سجدت هذه المرأة لثمانية وأربعين ساعة بشكل متواصل، ونجم عن ذلك آثار طبية شديدة السوء على رجليها!
ما الذي دفعها للسجود ليومين متواصلين؟ماذا حدث لها؟عم َّ كانت تبحث تلك السيدة! هل كانت تبحث عن الانعتاق من أسر الجسد والاتصال بعمق وجودها الروحي وكينونتها؟ هل أفرطت في تتبع رغبات الجسد حتى اختنقت روحها، فحاولت أن تجعل سجودها الطويل جدًّا معراجا للارتقاء الروحي والتحرر من ربقة الجسد وشهواته؟ هل كانت تعوض عن سجدات لم تسجدها متفرقة طوال عمرها، فسجدتها سجدة واحدة متصلة؟
الخروج من الجسد أثناء الحياة تجربة ليست بنادرة ولا حديثة، وإنما فقط يندر الحديث عنها في عالم شديد المادية، وعلم ينحو ليكون واقعيًّا وماديًّا وكميًّا جدًّا، دون أن يقيم وزنًا كبيرًا لظواهر ما وراء الطبيعة، أو الميتافيزيقا.
الخروج من الجسد هو خبرة حقيقية عايشها بشر كثيرون انتقلوا إلى عالم موازٍ تماما لعالمنا ثم عادوا للحياة ليخبرونا عّما شاهدوه!
إنه عالم البرزخ: عالم موجود وحقيقي لكنه غير مرئي! تماما كما تملأ أجواءنا أنواع متعددة من الأمواج الصوتية والذبذبات ولكننا لا نراها برغم وجودها.
هناك من يصنف هذا العالم الموازي الذي يوجد معنا إلى سبعة مستويات، نحن عاجزون عن إدراكها لأننا مأسورون داخل حدود الجسد المادي الذي نسكنه، فهو كالغشاوة تمنعنا من الرؤية، وتزول هذه الغشاوة بمغادرة الجسد كليا بالموت، فقول الله تعالى: “لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ”. ولكن في الحياة يحدث الخروج من الجسد بشكل جزئي طبيعي يحصل لكل البشر في حالات معينة مثل:
– النوم: فنحن كمسلمين نعلم فيما لا يقبل الشك أننا عندما ننام تنفصل النفس عن الجسد وتقوم برحلاتها ثم تعود للجسد المادي حين نستيقظ.
ويظهر هذا واضحاً في قوله تعالى: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.
لذا سمي النوم بالموتة الصغرى، الفرق الوحيد بين النوم وبين الخروج من الجسد هو أننا عندما ننام لا ندرك الوعي، أما في الخروج من الجسد تخرج النفس باصطحاب الوعي، ويرافق عقلنا هذا الجسد غير المرئي لعالم الأحلام.
أثناء النوم تخرج الروح من الجسد وتعيش في عالم البرزخ، فتسافر وتعيش خبرات متعددة، منها المفرح أو المحزن أو المؤلم. ونحن غالبا لا نستطيع تذكر تلك الخبرات بعقلنا الواعي حينما نستيقظ.
استيقاظ الوعي خلال النوم وأثناء الحلم
إن وصل الشخص لمرحلة أن يدرك أنه يحلم خلال حلم ما، سيصبح سهلا عليه أن يتحكم بجسمه الأثيري ويقوم بالخروج من الجسد ما دام قد تمكن من الوعي.
يجب أن نفرق بين أنواع ما يراه النائم وهو الرؤيا من الله، أو الكابوس والحلم المحزن من الشيطان، أو الحلم الذي يحدث المرء به نفسه فيحلم به.
ما سيساعد في الخروج من الجسد خلال الحلم هو ما يُحَدِّث به المرء نفسه فيحلم به. فالناس الذين يتدربون على شحذ الوعي بعالمهم الباطني، عن طريق الاسترخاء التام، فإنهم يستطيعون الخروج من الجسد، ليشاهدوا أجسادهم من الخارج، وقد يسافرون بأرواحهم ليلتقوا ببشر آخرين في مكان أو زمان آخر، فيزورونهم في نومهم، وتتلاقى الأرواح في عالم الروح.
خبرات نادرة تمر بها صفوة من البشر
بسبب شدة صفاء أرواحهم وشدة تركيزهم في أشخاص معينين أو حوادث معينة، تمكنهم من اجتياز حواجز الزمان والمكان، لمعرفة حال شخص ما بعيد عنهم لمسافات كبيرة، بل وربما التخاطر معه عن بعد، فيما يسمى بالحاسة السادسة. التي يخبرها بعض الناس ولهم فيها تجارب مدهشة تتجاوز الجسد وتدهش العقل ولا يمكن قياسها بشكل علمي، لأنه تتجاوز حدود أدوات العلم المادي المحدود.
تحدث هذه التجارب غالبا بشكل عفوي، ويعجز عن وصفها الكلام فيتحرر الإنسان من الجسد المادي ويبقى عبارة عن وعي وجسد شفاف.
الحوادث التي يشرف بها الإنسان على الموت
يعود الأشخاص الذين توقفت قلوبهم لثوان وعادوا للحياة، أو خاضوا تجارب لحوادث خطيرة: أنهم استطاعوا أن يشاهدوا أجسادهم ينزف منها الدم وراء مقود السيارة، أو راقدة على سرير المستشفى، وكأنهم ليسوا هم من في هذا الجسد. في تلك اللحظات يمر شريط حياتهم أمامهم بكل التفاصيل الدقيقة خلال ثوان. ولكن الخبرات الأشد إيلامًا وإحراجًا منه كانت حقوق الله أو العباد التي لم يؤدوها: فمنهم من تذكر كل صلواته التي أضاعها، ومنهم من تذكر الديون التي لم يؤدها لأصحابها، ومنهم من تذكر الأغاني التي كان يستمع إليها.
السجود والخشوع في الصلاة
عندما يصل الإنسان إلى درجة عالية من الصفاء، ويسجد ويخشع في صلاته وسجوده ودعائه، فإنه يدخل في مرحلة من الصفاء تجعله يشعر فعلا بأنه أصبح متحررًا من ربقة الجسد وأسره منطلقًا بروحه في الملكوت، مخاطبًا ربه.
يشعر المؤمن ساعة استغراقه بالدعاء بتجربة صفاء روحي تتجاوز أيضًا حدود الجسد، وقد يلهمه الله أثناءها ما يقول أو يفعل أو يعرف أثناء تلك التجربة معلومات لا يمكن له إدراكها بجسده المحدود.
فمتعة مناجاة الله ورحيل الروح إليه في الحياة، هي جنة الدنيا، التي قال عنها بعض الصالحين: نحن في نعمة لو علمها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف.
فالصلاة ببعدها الروحي الذي يسمو بالروح، بالإضافة إلى بعدها الجسدي الذي يحرك الجسد خضوعًا وانقيادًا لما يرتقي بالروح والجسد، ضمن حركات معينة ذات مغزى كبير، تؤدي في النهاية إلى حصول إحدى النتائج المرجوة للصلاة وهي التحكم بالجسد وقيادة رغباته، إلى حيث ترتاح الروح ويرضى الضمير.
قال تعالى: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”. فالفحشاء والمنكر هي أعمال يقترفها الجسد عندما يسيطر على الروح، ليتحرك فقط صوب إرضاء شهوته.
إن الانقياد الأعمى لرغبات الجسد ونزوات النفس عبودية ما بعدها عبودية، ولذلك جاء الإسلام ليحرر الإنسان ويخرجه من الحبس في نطاق الجسد المحدود فحسب، ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الواحد الأحد.
قال عليه السلام: “تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة”. نعم، إنها التعاسة الحقيقية بعبودية الرغبات المادية ونزعات الجسد، وإهمال حاجات الروح والقلب، مما يجعل تجارب كتجربة تلك السيدة التي سجدت لثمانية وأربعين ساعة متواصلة تحدث، في محاولة للبحث عن التوازن الروحي المفقود.
فالإنسان المتكامل يتكون من روح وجسد وعقل وقلب، ولكل منها مطالب وحاجاته.
التوازن الذي كفله الإسلام في رسالته، فلم ينكر حاجات الجسد والروح بل دعى لتلبيتها باعتدال بالوسائل السليمة الشرعية، حتى لا يشذ الإنسان في متابعة شهوات الجسد فيصيبه العمى والضلال: “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا”.
ويسعى لرضا الله والدار الآخرة باعتبارها الغاية الأسمى دون أن يتجاهل مطالب جسده وحاجاته: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
الإسلام هو الذي حقق التوازن بين الحاجات الإنسانية جميعها، حتى لا يعيش المرء في حالة صراع أو حاجة تزلزل وجوده وتدفعه للتطرف باتجاه ما، تعويضًا عن صوت روح عطشى للاتحاد مع قوة تتجاوزها، أو حاجة جسد تطرفت حتى طغت على توازن الإنسان.
وسعادة المرء هي أن يغذي جوانب الإنسان فيه جميعًا باعتدال وسواء، لأن هذا طريق الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده في الدنيا قبل الآخرة: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست