في السياسة كما في الاقتصاد، متى ما تحدثنا عن التغيير أو الإصلاح إلا وتحدثنا عن مذهبين أو نظريتين في مقاربة مفهوم التغيير. فهناك من يرى أن إصلاح نظام ما يتطلب الولوج إليه، حتى تصير جزءًا منه، وتفهم نظم عمله فتلتقط مواطن الخلل فيه، فيما يصر مساندو الإصلاح من خارج أسوار النظام على أن تغيير النظام من الداخل هي فكرة ضاربة في الوهم، وأن لا سبيل نحو الإصلاح غير الإطاحة به تمامًا، أي ضرب مرتكزاته وأعمدته مباشرة.
إذًا يتعلق الأمر بمقاربتين مختلفين، ولكل واحدة منهما قوتها ونقط ضعفها.
أعتقد أنه من الأساسي بمكان أن نفهم المقصود بالنظام، ونتعرف على خصائصه قبل الخوض في تقديم آليات إصلاحه. على اختلاف السياقات التي يمكن أن يذكر فيها النظام في المجتمع أو السياسة أو الاقتصاد، لا شك أن لكل نظام أسسًا يقوم عليها أي قواعد أو طرق مسطرة مسبقًا، يخضع إليها كل من ينتمي إلى النظام.
وفي أي نظام غير عادل، لا شك أن ثمة طبقة مستفيدة منه، طبقة تخدمها مخرجات النظام.
إذا كان على رأس نظام مارق عن نهج الصلاح طبقة تستفيد منه، فإنه من المنطقي جدا أن تعارض بكل قواها كل من يحاول المس بثوابت هذا النظام، وهذا هو أبرز مشكل قد يواجه الإصلاحيين من الداخل، فرغبة الإصلاح تجابهها رغبة أسياد النظام وحراسه في الحفاظ على امتيازاتهم وهو ما يضع الإصلاحي المسكين أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن ينخرط في النظام، وإما أن يرفضه ويعارضه فيغادره صاغرا لأن موازين القوى لا تخدمه.
هذا البعد الهرمي الذي ينظم العلاقات داخل نظام ما هو في نظري أهم ما يضرب صحة فكرة إصلاح النظام من الداخل، فالتوغل في النظام يعني أن نصير جزءًا مستقبلًا ومنفذًا للأوامر التي يمليها علينا جزء آخر. فما الحل هنا؟ تنفيذ الأوامر والانبطاح؟ أم الثورة ومغادرة النظام؟ في كلتا الحالتين لا شيء في الواقع يتغير. الإصلاح من الداخل وفق هذا المنظور يبدو صعبًا جدًا، فالتوغل داخل النظام لا يمكننا سوى من التقرب منه ومعرفته عن قرب، أما التغيير فله خطوط حمراء لا يقبل أسياد النظام تغييرها.
إذا كان خيار التغيير من الداخل غير فعال، فما محل التغيير من خارج النظام؟ ما يعاب على الأخير في نظري هو أنه يهاجم النظام بلا هوادة، دون أن يعرفه معرفة دقيقة، همه الوحيد هو إسقاطه وإعادة بناءه، بلا واقعية كبيرة.
في مصر أراد الناس التغيير فخرجوا بالملايين خلال ثورة 25 من يناير. كان الشعار واضحا: إسقاط النظام، كل النظام! تحققت في البداية أماني المصريين بعد أن بدا أن النظام يسقط مع تنحي الدكتاتور المخلوع حسني مبارك.. لكن من ثاروا لم يكونوا على ما يبدو على دراية تامة بدواليب السلطة في مصر. فمجرد تنحي مبارك والنجاح في القيام بانتخابات لم يكن يعني أن النظام قد سقط. النظام ظل ثابتًا فدعائمه أسست على بنية قوية، الانقلاب العسكري على إرادة الشعب أبان أن النظام كان ما زال قائمًا، كان متخفيًا، تغيرت أسماء وشخصيات لكن روح الاستبداد ظلت ثابتة.
أهم من كل هذا الكلام هو التفكير في الطريقة وفي محتوى النظام الجديد، فتغيير النظام لا يرادف إسقاط نظام قائم فقط، بل يتعداه إلى بناء نظام جديد، وفعل البناء هذا أصعب بأضعاف كثيرة من فعل الإسقاط والهدم. وواحد من أهم عوائق وتحديات البناء هو التعدد الفكري للقوى الحية التي تساهم في عملية الإصلاح، فلو تحدثنا عن تغيير النظام السياسي من طرف قوى قومية دينية أو قومية عرقية وأخرى يسارية تقدمية، لا شك أن الأمر سيكون صعبًا إن لم تتحل كل الأطراف بمرونة فكرية تجعل من القيم الكونية المشتركة أساسًا بعيدًا عن كل المشاحنات الإيديولوجية الضيقة.
ما يبدو مؤكدًا هو أن طريقة الإصلاح بين من ينظر إليها من زاوية سياسية ودبلوماسية من خلال الإصلاح من الداخل وبين من يراها جذرية ثورية تبقى مرتبطة بمفهوم النظام وبخصوصيته، فقد ينجح الإصلاح التدريجي من الداخل في سياق وقد يفشل في آخر، وكذلك هو حال الإصلاح الثوري أيضًا.. لكن على اختلاف سبيل الإصلاح وطريقته يبقى أهم شيء هنا هو نشر الوعي والمعرفة حتى يفهم الناس كل الناس مكامن الخلل ويجمع الجميع على راهنية وضرورة الإصلاح، حينها تصير كيفية الإصلاح تفصيلًا للنقاش.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست