قد يبدو العنوان متناقضًا، والحقيقة أن من قال لا يعرف الله إلا الله فقد صدق، وأن من قال لا أعرف إلا الله قد صدق أيضًا، ولنعلم كيف يمكن لهذا الذي يبدو تناقضًا أن يكون قولًا صادقًا، دعني آخذك في جولة سريعة في مقدمة كتاب المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للعلامة أبي حامد الغزالي، والذي كتب قبل 900 عام تقريبًا.

لا يعرف الله إلا الله

لمعرفة الله عدة سبل، أولها المكاشفة والمشاهدة، وهذه هي البرهان الدامغ الذي لا يشوبه خطأ، ولكن لا سبيل للوصول إليها، وفيها يقول أبو بكر الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك.

أما الثانية فهي حظ الإنسان من أسماء الله عز وجل وصفاته، فكلما كنت عليما أدركت نصيبًا أكبر من اسم الله العليم، وكلما كان نصيبك من الإحسان أكثر قربت معرفتك باسم الله المحسن، وهكذا كلما زاد حظك من الصفات الحسنى زادت رتبتك ودرجتك من معرفة الله، ولكنك لا محالة لن تدرك الكمال.

ومن المعلوم أن الحيوان إنما يتحرك ويفعل بدافع الشهوة أو الغضب، فلا عقل له يمنعه عن شيء لا يوافق هواه، والحيوان يدرك ما حوله بحواسه ولا يدرك ما يقع خارج هذه الحواس، وأما الإنسان فدرجته أعلى إن أراد ذلك، وهي درجة متوسطة بين البهيمية والملائكية، وهو يدرك الأشياء من حوله بحواسه وبعقله، وحواسه قليلة العدد ضعيفة الحيلة والقدرة، وكذلك عقله.

ولك أن تتخيل هذا المثل العجيب، لو سأل طفل عن لذة الوقاع وإدراك حقيقتها، فليس هناك إلا سبيل واحد للمعرفة الحقيقة وهي أن ننتظر حتى يكبر ويمارس هذا الفعل فيفهم ويعرف عما سأل، وأما السبيل الثاني فهو أن نصف له ذلك بأن نشبهه بشيء يفهمك، كطعام يمكنه تذوقه، كأن نقول له إنه حلو كالسكر مثلًا، فأنت أيها الطفل تجد في نفسك راحة وحالة طيبة عند تناول السكر، فكذلك ستجد في الوقاع، ويمكننا أن نفهم من ذلك أن هذا الوصف مقاربة لا يمكنها أن تفضي إلى معرفة حقيقية، ولله المثل الأعلى، فهو الذي ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السماء.

وعليه يمكننا القول إن لمعرفة الله سبيلين، أحدهما قاصر، والآخر مسدود، وعليه فمن قال لا يعرف الله إلا الله فقد صدق.

لا أعرف إلا الله

وهذا عالم وتلميذه، الأول يعلم في ثلاثة من العلوم الطبيعية وتلميذه يعلم في علم واحد، فالعالم يعلم في الطب والفيزياء والكيمياء وتلميذه لا يعلم إلا في الطب وبدرجة أقل من معلمه، ولك أن تتخيل من فيهم يمكنه أن يتصور بديع خلق الله وعلمه، فكيف إذا تعلم علم الفضاء والرياضيات واللغات والأحياء والهندسة وغيرها من العلوم التي لا حصر لها ولا حصر لما تحتها من تشعبات، فإذا قال الإنسان إني أرى بديع خلق الله وآثاره في كل تفاصيل الحياة فقد صدق، فإذا طلعت الشمس أطفأنا المصباح، والله نور السماوات والأرض، أثره في كل مكان وهذا لكل من أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وعليه فمن قال لا أعرف إلا الله فقد صدق، فهو لا يعرف رازق إلا الله، ولا يعرف عالم إلا الله، ولا يعرف رحيم إلا الله، وهكذا فهو يرى كل ما في الوجود لا يدل إلا على الله.

ومن خلال فهمك لقول لا يعرف الله إلا الله وقول لا أعرف إلا الله يمكنك فهم وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ.

الجنة ليست على الأرض

هناك رجل مشهور جدًا لا أحب أن أذكر اسمه هنا، لكن صوره تتصدر منشورات وسائل التواصل الاجتماعي خاصة بين الشباب، وهو رجل يظهر بشكل دائم بين مجموعة كبيرة من النساء العرايا، ويصر على أن يصور نفسه على أنه يفعل كل ما يشاء وقتما يشاء وأنه جرب كل ملذات الحياة.

كان سؤال أحد أصدقائي، وهو سؤال بديهي، كيف يمكنك أن تقنع هذا الرجل بوجود الجنة؟ هو فعليًا يعيش في جنة على الأرض، وليس هناك معنى لأن ينتظر حتى يصل إلا جنة مشكوك في أمرها كما يصف!

والإجابة يمكن أن نستقيها مما تم توضيحه سابقًا، فلا يعرف حقيقة الموت والجنة والنار إلا من جرب الموت أو دخل الجنة أو دخل النار، فتصور أنك تصف عذاب النار لإنسان لم يعان قبل من أي نوع من أنواع الألم، هو لن يتخيلها، وكذلك الجنة، غاية ما يمكننا أن نعرفه عنها هو بتقريبها بأمثلة يمكننا فهمها من ملذات الحياة التي ندركها بحواسنا وعقولنا الناقصة، كمثل تشبيه السكر بالوقاع لطفل لم يتجاوز الحلم، وأبلغ ما يقال في وصف نعيم الجنة أن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالجنة أبعد من أية ملذة عرفتها أو سمعت عنها، وهنا يمكننا أن ندرك معنى أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.

الخاتمة

قلنا إن لمعرفة الله سبيلين، أولهما مسدود، والآخر قاصر، ونحن نتفاوت في هذا الآخر بقدر نصيبنا من صفاته عز وجل، وإن شئت أن تعتبر هذا المقال دعوة إلى تقديس الله وتعظيمه فذلك غاية ما يدركه الإنسان، وإن شئت اعتبرته أيضًا دعوة للتبحر في أسماء الله وصفاته والتأسي بها غاية التأسي فهذا هو المطلب والمنى.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

أعرف, الله

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد