المعتقلات في وطني لأصحاب الرأي والفكر فيها ما فيها من الأهوال التي يشيب لها الولدان. في المعتقل لا تنام إلا نومًا متقطعًا قلقًا، ورغم ذلك تستيقظ لهفًا.
– أكثر أوقات المعتقل تجده يمارس رياضته المتمثلة في قطع أمتار الزنزانة، حيث يدور عبثًا وتيها، متلهفا لتلك الزيارة التي يسمح بها هؤلاء النخاسون من الشرطة لرؤية أهله.
– حتى جسدك ليس ملكك فهو معرض للانتهاك في أي لحظة في الزنزانة.
– كلما هممت أن تغمض عينيك؛ شريط حياتك، طيف حبيبتك، حنينك لأهلك، تُعرض أمامك كل لحظة!
أسوأ ما فى الاعتقال هو تلك العتمة في تلك الزنزانة المنفردة حين لا تعرف الوقت، فلا شيء غير العتمة التي تُحيط ثوانيك، وتدثر ساعاتك، ولا يوجد غير الجدران تناجيها وتحكي لها مآثرك ومعاناتك وحال عشرتك، ولكن سرعان ما تصطدم بحقيقة أن حروفك كالمطاط، ترتدّ إليك في الحال، دونما جواب شافٍ.
فى السجن العلاقات تشوبها الغرابة؛ فهناك من تتعرف عليه عبر الجدار، وتظلون هكذا لسنين، فلا يرى أحد منكم الآخر ورغم هذا يأسر قلبك حتى يصبح أقرب إليك من حبل الوريد!
في الزنزانة يحاول السجان أن يجعلك تعتاد “الألم” بمسافة ما تمكث، حتى لا تعد تعنيك آلام الآخرين، فأنت تنتهج اللامبالاة دونما حياء.
في بلادي، يرسم الجلاد “القهر” بالنقش على أجساد المساجين، لك أن تتخيل عندما يكون السبيل الوحيد لإرسال دفعة من صدق المشاعر ونبضات “الحب”عبر الأسلاك الهاتفية ثم فجأة يأمرون بمنعك من الاتصال تعلم حينها صدق حقارة السجان، وتتجسد المعاني غير الآدمية فيه؛ حقا تالله كم هي مؤلمة دمعة الحب في غيابة الجب. إن رائحة السجن لا توصف، تُعرف وتشمّ فقط! لا تشبه شيئًا آخر في الحياة.
قد يستطيع هؤلاء النخاسون من الشرطة أن يخفوا أجساد أحبتنا داخل غياهب المعتقلات؛ لكنهم لن يستطيعوا حبس أفكارهم عنا وكم من السجون نبتت داخلها أفكار تكتب وتكسر القيد والأغلال بحروف الحرية، وما سيد قطب عنا ببعيد.
قالها سجين سابق: يا سجان مهما بلغ سجنك للجسد فلن تقتحم “دواخلنا” إلا بإرادتنا، وستظل الروح طليقة ولن نركع لغير الله.
وكأن لسان حال المعتقل يخاطب بنياته فـيقول سنين عجافًا لم تكتحل عيناي برؤيتكن ولم تهنأ أضلعي وقلبي بضمكن ولن تهدأ نفسي وروحي إلا بقربكن؛ فحسبي على من حرمني منكن حسبي عليه.
– في السجن الوحدة والخلوة تولد لديك الوقت الكافي للتفكير والمعاينة الذاتية مع النفس، فتجلس في معية ذاتك، وتستكشف أصغر العيوب والتي لم تكن لتظهر لك في السابق.
في السجن تُزال عنك مظاهر الحياة الكمالية لا منصب، ولا أهل ولا مال، ولا انشغال فتتحول الزنزانة إلى “محراب” للخلوات التي تجعلك تتعلق بالله.
– كان أبو البخاري من صحابة الميدان الأول الذين هاجروا إليه بحثًا عن الحرية.
– تعرفه كل الميادين التي أريقت على أرضها دماء الثوار، لم يكن ممن امتطى الثورة مثل الكثير من شيوخ السلطان فقبل الثورة المباركة قد عرفته من ضمن الجنود المجهولين الذين وقفوا للتصدي لفُجر دولة الكنيسة وتعنتها، وله باع طويل في قضية كاميليا وأخواتها، هو ورفيقه خالد حربي فك الله أسرهم.
– ليست شيزوفرنيا من أبي البخاري أن تراه يهاجم الكنيسة في تعسفها، ثم تراه من أول من يدافع عن مينا دانيال حين أراق دمه العسكر؛ فالمبادئ والدماء عنده واحدة.
– ليست شيزوفرنيا أيضًا أن تراه يهاجم الإخوان ومنهجهم السياسي ثم تراه فى أوائل الصفوف في مذبحة رابعة ويعتقل على إثرها فلم يكن ليداهن الإخوان، حينما كانوا في الحكم، ولم يكن ليوليهم ظهره ويتركهم ضحية للعسكر ليئدوا الثورة وينتهكوا الحرمات ويعيثوا في الأرض الفساد.
– كان من الأتقياء المتوارين، الذين ما أن تجد مظلمة لشخص من أبناء تياره أو خارج أبناء تياره، إلا وتراه في أول الصفوف على منبر الحق، وما قضية كشف العذرية وفتاة العباءة عنا ببعيد.
على يقين بأن الله اختار هؤلاء الشباب ليعدهم لشيء وليربيهم لشيء قد يحدث الله به بعد ذلك أمرًا.
وكما قال سيدي أحمد ياسين (إنني أتمنى أن يُعتقل كل شاب ولو لفترة قصيرة؛ لأن الاعتقال سيكسر حاجز الخوف داخله).
وما يضر المعتقل قلة السالكين في طريق الحق فهذا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي رضي الله عنه يُقتل ظلمًا وعدوانًا فلا تنبس الأمة ببنت شفة بل الذين قتلوه يكبرون على “الانتصار” الذي أحرزوه كما تظن عقولهم الفارغة:
جاؤوا برأسك يابن بنت محمد … متزملا بدمائه تزميلا
يكبرون بأن قتلت وإنما … قتلوا بك التكبير والتهليلا
وهذا الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة في السجن قاسى أنواع التعذيب ولم يتحرك لذلك أحد!
وجُلد الإمام مالك ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وطيف به في المدينة فلم تتحرك المسيرات والمظاهرات. واُخذ ابن تيمية مأسورًا وأركب البغل إلى مصر فلم تمج تلك الجموع الغفيرة التي حضرت جنازته!
فإلى الله المشتكى.
فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست