دُفنِتُ في غزة، دُفنِتُ حيث الموتى يبعثون، كما قال الكاتب الرائع يسري الغول في كتابه الرائع: «الموتى يُبعثون في غزة»، إلا أنني أختلف معه تمامًا فيما قال؛ لأن ما رأيته في غزة أن الأحياء يُدفنون وتدفن أحلامهم، وآمالهم، وتطلعاتهم، ومشروعاتهم ولا أحد يشعر بمعاناتهم، ومنهم من حاول الهرب من الدفن في ترابها الطاهر ليدفن في بحر لُّجِّيٍّ بعد أن تتلاقفه أمواج البحر وتتلاطمه وتجعل منه بالونًا منتفخًا بالمياه، ومن ثم يقذفه ليتلقفه البر الذي كان قد طارده كما تطارد السباع القوية الفريسة الضعيفة، فالذي سلك طريق البحر مهاجرًا هاربًا من القطاع كان يعلم ويعرف مصيره ويعلم أنه سيواجه الدفن، لكنه يعتقد أيضًا أن البحر أكثر حنانًا من غزة التي أصبحت كأنثى النمل الناري تُدرك أنَّ الذكر في عالمها كائن كسول، ولا يفعل شيئًا سوى الاسترخاء، وتناول الطعام، والتزاوج؛ ولذلك فهنّ لسن بحاجة للكثير من الذكور للقيام بهذا العمل.

ولهذا عندما تُرزق أنثى النمل الناري بأطفال جدد؛ تقتل عددًا كبيرًا من الذكور بين صغارها لكونهم عالة على مجتمعهن، وتترك منهم أعدادًا قليلة لإتمام مهمة التكاثر؛ بينما تترك جميع الإناث لأنهن من يتولين العمل في مملكة النمل.

لكن التفرقة في غزة تختلف نوعًا ما، فالتفرقة تكون بين أبناء الأحزاب الأكبر والأصغر، وأبناء أصحاب النفوذ، فالتنافس بين هذه الطبقات خلق الطبقة المسحوقة والمنسية التي أصبحت تعتقد أن الموت بقذيفة صاروخية، أو الموت في مسيرات العودة بطلق متفجر أقل ألمًا من من الموت جوعًا، ومنهم من يعتقد أن الموت في بحر لُّجِّيٍّ أكثر تفضيلًا من الموت برصاص القناص الإسرائيلي، الذي يستمتع – أو أنها تستمتع – بقتل شباب غزة على الحدود، وأنها تشعر بالنشوة حين تفتت قدمه وتفتك بجسده المنهك قبل إصابته، والآلاف من الشباب دخلوا وتسللوا إلى أراضينا المحتلة اعتقادًا منهم أنهم سيُصلون في القدس لكنهم قتلوا وأعدموا بدمٍ بارد، فهم هربوا من واقع صبروا عليه أكثر من عشرة أعوام ولم يتغير، والواضح أنه لن يتغير إلا للأسوأ، فكل يوم يزيد سوءًا أكثر من الذي سبقه، فالحصول على فرصة عمل في غزة يتطلب منك ما لا يتطلبه المقاتل في ساحة المعركة، حتى إن الشركات والمؤسسات أصبحت وبسبب العدد الهائل من الخريجين تطلب على سبيل المثال من عامل النظافة أن يحصل على بكالوريوس في أحد التخصصات، والأهم أن يكون حاصلًا على «فيتامين و» (مصطلح أطلقه شباب قطاع غزة على الواسطة) من أحد مراكز القرار في القطاع. أما الحصول على الشهادة الجامعية فهو لا يتطلب الاجتهاد في الدراسة، فهي تتطلب منك أن تكون قادرًا على تسديد الرسوم وشراء مستلزمات الدراسة.

وعن الفساد الجامعي في فلسطين قال البرفسور عماد البرغوثي: «بما أن فلسطين تحتل المرتبة الثانية عربيًّا بعد لبنان من حيث مظاهر الفساد المختلفة، وفي نظري أن أسوأ أنواع الفساد هو الفساد الأكاديمي». وهنا أقول: الفساد الأكاديمي في بلدي وصل إلى مراحل متقدمة جدًّا يصعب علاجها أو محاسبة المسؤول؛ لأن الفساد في المناصب كلها من رأسها الى قاعها، وبالتالي، من يحاسب من؟

ومن مظاهر هذا الفساد التي أعرفها:

  • الفساد في التعيينات، من توافق عليه الأجهزة الأمنية هو الآمن، وغيره في مهب الريح.
  • التدريس في الجامعة والتقييم ورصد العلامات، حدث ولا حرج، «شلفقة».
  • الترقيات في معظمها غير صحيحة، وتعطى لمن لا يستحق، «زبطني بزبطك».
  • السرقات العلمية يجري اكتشافها ولا يحدث شيء.
  • الغش في الامتحانات وفي مشروعات التخرج، ورسائل الماجستير واضح للجميع ولكن دون تطبيق القوانين.
  • المحاباة والمجاملة في مناقشات الرسائل الجامعية ومشروعات التخرج.

في بلدي الحصول على درجة البكالوريوس أسهل بكثير من الحصول على الثانوية العامة، والحصول على الماجستير أسهل من البكالوريوس، والدكتوراة أسهل من كل هذا، فهي أقل من مشروع تخرج أو بحث محترم في مساق ما، المهم ادفع الرسوم والشهادة تأتي. وأخيرًا أقول إن العديدين ممن هم أساتذة جامعات، أو أصحاب كراسي عليا في الإدارات الجامعية لا يحق لهم الوقوف أمام أبواب الجامعة.

أما عن الحب، فقد دفن إلى أجل بعيد؛ فلم يعد في غزة ما يسمى بالحب؛ فقد أصبح الزواج لمن لديه القدرة المالية على الزواج، أما من لم يستطع فعليه بالصيام أو الهجرة، أو عليه أن ينسى رجولته، وحتى إن الكثير منهم سجن بسبب ديون «قروض تيسير الزواج»، أي إنه أصبح كابوسًا مؤلمًا يؤرق الشباب. دفن الحب في وطن الحب، دفن السلام في وطن السلام، دفن الأحياء حيث الموتى يبعثون، دفنت آمال ومشروعات لو أنها لم تدفن لغيرت وجه العالم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد