في خضم هذه الأزمة التي تورط فيها ابن سلمان، ولي العهد السعودي، لم أر واحدًا من أساطين الفكر والتحليل السياسي تنبأ لنا بمصيره ومستقبله السياسي، إثر اغتيال الكاتب السعودي الشهير، جمال خاشقجي بقنصلية بلاده بالعاصمة أنقرة. ولا يخفى أنه ورط معه كل المتشيعين له من زعماء الغرب، وعلى رأسهم حليفه الرئيس، دونالد ترمب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. الذي ما برح جاهدًا يحاول أن يخرج الرجل من هذه الورطة المزمنة. والتي لا يستطيع أي ذي لب أن يعفي هذا الأمير من إعطاء الأمر المباشر بتصفية المغدور به. والفاعلون المؤثرون فيما تؤول إليه هذه الأزمة حتى وقت كتابة هذه السطور طرفان أساسيان: تركيا، والولايات المتحدة الأمريكية. هذا الأخير فينشعب إلى خمسة. البيت الأبيض والكونجرس بمجلسيه، والإعلام الأمريكي، والمخابرات المركزية الأمريكية، ثم يأتي من بعد ذلك منظمات حقوق الإنسان.
أما الطرف الأول، بزعامة أردوغان، فيدير ملف الأزمة على أعلى درجة من الحكمة والاقتدار، سعيًا لإحقاق الحق، وسبرًا لأغوار مكنون هذه الغدرة اللئيمة، وبيمينه أدلة الجريمة جلها إن لم يكن كلها. أما البيت الأبيض فيروم من طرف خفي، ويسعى بشتى الطرق إلى إنقاذ ولي العهد، وإخراجه من ورطة ربما لن يواجه مثلها في حياته السياسية، بل لربما تكون الأخيرة!
أما الكونجرس بغرفتيه: الشيوخ، والنواب، فغالبيتهما في غضبة عارمة، إزاء تصفية خاشقجي بهذا الأسلوب الهمجي، ناهيك عن قضيتي الحرب في اليمن وحصار دولة قطر، على أن الموقف من هاتين القضيتين الأخيرتين، وللأمانة لا يخلو من نفاق بين. فقد صرح النائب البارز بوب كوركر أن ابن سلمان” صار خارج السيطرة، والنائب الثائر ليندزي جراهم، يؤكد دومًا أن ابن سلمان ضالع في هذه الجريمة، وبـأمر مباشر منه، ووصف الأمير بأنه مخبول ومجنون، وأنه شريك لا يمكن الاعتماد عليه. ويزداد الكونجرس يومًا بعد يوم قناعة، بضلوع الأمير المتهور في الأمر المباشر بهذه الجريمة، وسيحول بين البيت الأبيض، وبين ما يريد من الإبقاء عليه في منصبه. فقد استمعت لجنة منه، في جلسة مغلقة، لمديرة المخابرات المركزية، جينا هاسبيل فخرجوا جميعًا على قناعة أن الأمر بالتصفية صادر من ولي العهد، ثم أرادوا التثبت من ذلك، فاستدعوا – في سابقة هي الأولى من نوعها – مدير المخابرات التركية ليستمعوا إلى إفادته، بل إن أردوغان نفسه جاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليدلو بدلوه. أما الإعلام الأمريكي، والذي طعن في صميم كرامته، لاسيما وأن الضحية كان صاحب عمود في الواشطن بوست أيقونة الصحافة في العالم كله، فصار الأمر بالنسبة له بمثابة حرب لا هوادة فيها، وثأرًا لن يهدأ له بال حتى يأتي برأس الضالع في هذه الفعلة الشنيعة.
أما الشعبة الرابعة من الطرف الأمريكي، فهي المخابرات المركزية الأمريكية. وستعمد إلى تسريب ما بحوزتها، من إدانات لولي العهد وفضائح ترمب في السر وفي العلن. ولن ينجو ترامب نفسه من سلسلة التحقيقات، ذات الصلة بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الفائتة، والفضائح الجنسية، وكذا المصالح التجارية بينه وصهره جاريد كوشنر من جهة وبين محمد بن سلمان من جهة أخرى. فقد كشفت المخابرات المركزية أن ثلاثتهم كانوا على اتصال بما يقرب العامين قبيل الانتخابات الرئاسية، يرتبون لمصالح شخصية، ولدعم إسرائيلي من ابن سلمان فيما يسمى بصفقة القرن، يبيع فيها المسلمات والمقدسات لقاء وصوله لسدة الحكم. ألم ترى كيف نافح عنه رئيس الوزراء نتنياهو؟ وكيف صرح ترامب بأنه قدم لإسرائيل ما لم يقدمه أحد غيره! أما المنظمات الحقوقية، فستلاحقه منظمة العفو الدولية ومنظمة حقوق الإنسان، بل إن لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي. وللخروج من هذا المأزق قام ابن سلمان بجولة عربية علها ترفع عنه شيئًا من أوحال هذه الأزمة. فما كان من النخبة في تونس مهد الربيع العربي أن تقدمت برفع قضية ضده، وأساءت التظاهرات ضده أيما إساءة. فعلى غير عادة الزيارات الرسمية ألغي المؤتمر الصحافي، مغبة أن تسوء العاقبة، فيهاجمه الصحافيون بأسئلة محرجة، وينقلب السحر على الساحر. وعندما وصل الأمير إلى الأرجنتين لحضور قمة الـ20. حركت ضده دعوة قضائية من قبل منظمة حقوق الإنسان، ولكنها ما كانت لتصل إلى حيز التنفيذ، وعلى الأرجح بوعد من السلطات هناك، بأنها لن تدع الأمر يصل إلى هذا الحد، بل إن ترمب سنده الأول تجاهله حين رآه، ولم يصافحه، أما الرئيس الفرنسي ماكرون فصافحه، ودار بينهما حوار قصير كالحوار بين رئيس ومرؤس، كان أقرب إلى التوبيخ منه إلى النقاش وتجاذب أطراف حديث بين نديين. ولم يرحب به ويتجاذب معه حديث الود والند سوى بوتين، المتورط مثله في تصفية، لكن بالغاز، لا بالمنشار. وكذا الصينيون، وسجلهم الحقوقي ملطخ بالدماء. وستزداد الدعوات القضائية في شتى أنحاء المعمورة ضد الرجل، وسيزداد الخناق عليه في حله وترحاله. وستنتظره الحشود الغاضبة والأسئلة المحرجة، ولن يهدأ الإعلام والإعلاميون، ولا الصحافة والصحافيون حتى يعروا هذا الأمير ويكشفوا عن سوأته. وسيتعذر على الرجل ممارسة دوره كدبلوماسي في أعلى هرم السلطة.
أما الاتحاد الأوروبي، الذي يقبع في الظل، انتظارًا لنجاة الرجل أو هلاكه! يطلق قادته تصريحات رسمية شجبًا للجريمة الوحشية، وحظرًا رمزيًا لتصدير السلاح للمملكة العربية السعودية، التي تستجلبه جله من الولايات المتحدة الأمريكية. وآية ذلك تصريح وزير الخارجية الفرنسي، في لقاء تلفزيوني، أن الرجل لم يتسلم أو يسمع بالتسجيلات التي في حوزة السلطات التركية، وأن الرئيس أردوغان يلعب لعبة سياسية! أصبح الكونجرس على قناعة تصل – ولم تستكمل التحقيقات بعد – إلى ما يشبه اليقين أن ولي العهد ضالع في مقتل خاشقجي. كما أن أعضاءه بصدد إصدار مشاريع ثلاثة: إيقاف الدعم الأمريكي للرياض في حربها في اليمن، وإنهاء الحصار على قطر، وضلوع ولي العهد في مقتل الصحافي الشهير. فقد أصبح مسممًا، وأصبح وصمة عار على كل من يتعامل معه، أو يستقبله أو يصافحه. سيزداد الضغط يومًا بعد يوم، وسيبقى هذه الأمير معزولًا. وليست الصحافة الأوروبية بمعزل عن معترك هذه الضغوط الرهيبة، إذا فكر الرجل في زيارة إحدى دول الاتحاد الأوروبي، بل لا نستطيع أن نستثني النخب وإعلام بعض البلدان العربية التي ما زال بها متنفس من حرية، وليس تونس من ذلك ببعيد.
فلن تجد الإدارة الأمريكية من بد، من أن توعز لأهل الحل والعقد بالأسرة الحاكمة – كما هو الحال دائمًا – أن يأتوا ببديل، يزيح هذا الأمير الضليل. ولربما كانت عودة الأمير أحمد بن عبد العزيز من بريطانيا إلى السعودية بحماية أمريكية بريطانية مشتركة، شيء من هذه القبيل. وسيدفع إلى هذا السيناريو مطرقة هذه الضغوط الرهيبة فوق رأس ترمب وإدارته. وسيوضع ابن سلمان، وفضائح ترامب على مائدة المساومات. وسيكون الديمقراطيون ساعتئذ لهم اليد الطولى بمجلس النواب، وقد وضعوا أيديهم على الأدلة الدامغة على مصالح ترامب” الشخصية مع ابن سلمان، وعلاقته بالروس وفضائحه الجنسية، ومن ثم محاكمته. وسيساومونه: إما وإما. فلن يجد ترامب بدا من التضحية برأس ابن سلمان. وكأني بأهل الحل والعقد من الأسرة الحاكمة يجتمعون، فيزيحونه وينصبون بديله. ولربما يحاولون الإبقاء عليه بحيلة من الحيل، فيتولى وزارة، كالداخلية ويصدرون بديله، يحركه هو من خلف الكواليس. لعل في المستقبل البعيد تسنح بارقة أمل، وينسى العالم فعلته المشؤومة، فينحي بديله، ويثب على العرش في غفلة من ضمير العالم، بعد أن تكون قد بردت دماء المغدور به!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست