حين وصل إلى السلطة رآه بعضهم ديكتاتورًا مستبدًا، يطمح إلى إزاحة خصومه والقبض بيد من حديد على مقاليد الحكم المهترئ في اليمن، في حين لم تتضح للآخرين كينونة هذا القائد الذي انقلب على أول رئيس مدني للجمهورية اليمنية الوليدة .

إبراهيم محمد الحمدي من مواليد عام 1943، ينحدر من أسرة معروفة في الأوساط الدينية، كان والده محمد بن صالح بن مُسلَّم الحمدي قاضيًا في ثلاء وذمار. تعلم في كلية الطيران، ولم يكمل دراسته وعمل مع والده القاضي في محكمة ذمار في عهد الإمام أحمد حميد الدين. وأصبح في عهد الرئيس عبدالله السلال قائدًا لقوات الصاعقة، ثم مسؤولًا عن المقاطعات الغربية والشرقية والوسطى. في عام 1972 أصبح نائب رئيس الوزراء للشؤون الداخلية، ثم عين في منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة .

في 13 يونيو 1974، قاد المقدم إبراهيم الحمدي انقلابًا أبيض سمي بحركة 13 يونيو التصحيحية لينهي حكم الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، كان الإرياني رئيسًا ضعيفًا وإدارته غير فعالة في نظر الحمدي، ولم يستطع فرض هيبة الدولة الجديدة خلال فترة حكمه التي استمرت من نوفمبر 1967 وحتى يونيو 1974  .

في عهد الإرياني غلب الطابع المدني مع سمات النظام البرلماني على الطابع العسكري، وتراجع نسبيًا دور الجيش في الحياة السياسية، وأجريت العديد من التعديلات والاستحداثات في الجيش، لكن ذلك لم يكن كافيًا في تلك المرحلة خصوصًا وأن الجمهورية الوليدة ما زالت مهددة من أقطاب الإمامة، ويعبث في قرارتها مشايخ منفذون بعيدًا عن أجهزة الدولة، لذلك رأى الحمدي أن الإرياني ضعيف أمام أعدائه لكونه رجلًا مدنيًا، وأن الوضع سيسوء أكثر إن لم يتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

طلب الحمدي الذي كان يشغل منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة حينها من الرئيس الإرياني أن يغادر السلطة، وفي خطوة غير معهودة في تاريخ الانقلابات وبخاصة في دول العالم الثالث، اتصل الرئيس الشرعي بخصومه ليتسلموا الحكم، وقدم استقالته إلى مجلس الشورى، ثم اختار المنفى في سوريا، وبذلك كان أول رئيس عربي يقدم استقالته طواعية لمجلس منتخب. وقد ودعه إبراهيم الحمدي وأعضاء الحكومة في مطار تعز توديعًا رسميًا.

011216_0922_1.jpg

الرئيس عبدالرحمن الإرياني

 

استلم الحمدي مقاليد الحكم بعد استقالة الإرياني، وصعد برئاسة مجلس عسكري لقيادة البلاد، ومنذ ذلك الحين اتسع الدور الذي يلعبه الجيش في النظام السياسي والحياة العامة كما يرى بعض السياسيين والمؤرخين؛ بيد أن الوقائع التي حدثت في تلك المرحلة أثبتت أن الحمدي أراد إعادة هيكلة الجيش اليمني لمواجهة المشيخات القبلية التي كانت تدين بالولاء لجهات خارجية .

ورد في وثائق ويكيليكس أن الرئيس الحمدي كان يُخطط لإقامة ما سماه “بالمؤتمرات الشعبية”، وكان الهدف منها الاستعداد لإقامة انتخابات ديمقراطية وانسحاب الجيش تدريجيًا من المشهد السياسي؛ ولم تكن لتلك الخطوة أن تتحقق إلا بإعادة هيكلة الجيش والقضاء على نفوذ المشايخ.

شق الرئيس الحمدي طريقه تاركًا خلف ظهره كل الأحقاد والضغائن التي سادت تلك الفترة، وحاملًا معه رؤية واحدة لدولة العدالة والقانون، وهدفًا واحدًا هو التنمية الشاملة للجمهورية الحديثة . لذلك رأت الفئات المتنفذة من المشائخ والعسكريين حينها في الرئيس الشاب ديكتاتورًا طموحًا يسعى إلى نسف كل سلطتهم ومكانتهم ونفوذهم المستشري في جميع أجهزة الدولة خارج إطار القانون .

 

الإنجازات

بخطوات متسارعة بدأ الحمدي في إعادة هيكلة الجيش وإضعاف نفوذ المشايخ القبليين، فعمد إلى :

  •   هيكلة الجيش والمؤسسة العسكرية ودمجهما.
  •  إلغاء وزارة شؤون القبائل وتحويلها إلى إدارة في المجلس المحلي وتقليص مستحقات المشايخ .
  •  إنزال جميع الرتب العسكرية التي وصلت حد التضخم إلى رتبة مقدم بما فيها رتبته، مما أعاد للجندي والضابط الهيبة المفقودة.
  • منع المشايخ من تولي أية مناصب قيادية في الحكومة أو المؤسسة العسكرية، فقد كان يرى أنهم عائق أمام مسيرة التنمية، وكان هذا الأمر سببًا كافيًا لاغتياله .

 

أما الإنجازات الميدانية والتنموية فقد أطلق الرئيس الحمدي خطة خمسية للتنمية، تحقق منها الكثير خلال فترة رئاسته لمدة 46 شهرًا:

  • استخراج النفط: بدأت في عهده الشركات بأعمال الاستكشاف .
  • إعادة بناء سد مأرب وإنشاء حدائق عامة في العاصمة صنعاء  .
  • إنشاء شركة الاتصالات اليمنية تيليمن ـ مشروع يمني فرنسي.
  • شق وتعبيد الطرقات التي تربط بين المدن اليمنية.
  • تأسيس شركة النقل الجماعي الداخلي.
  • افتتاح التلفزيون اليمني.
  • مشروع ساحة العروض في ميدان السبعين بصنعاء.
  • توسعة ميناء الحديدة وبناء الكورنيش.
  • مجانية التعليم من كتب ودفاتر وأقلام مع وجبه طعام، وبناء المدارس الابتدائية في كافة القرى والثانوية في كل المدن، والمراكز التعليمية المتخصصة كالمدرسة الفنية بصنعاء، المعهد المهني، جامعة كلية الشرطة، مدارس محو الأمية ومعاهد القرآن.
  • إنشاء مؤسسات الدولة والمباني الحكومية: مبنى الجمارك والضرائب، جهاز الرقابة والمحاسبة، وزارة السياحة، مبنى السجن المركزي، مبنى الجوازات، مبنى المرور، مبنى شرطة النجدة، وزارة التموين الغذائي، البحث الجنائي والتجاري والقضائي.
  • إنشاء البنوك: البنك المركزي اليمني، البنك الصناعي، بنك التسليف الزراعي.
  • بناء المستشفيات العامة: مستشفى الكويت بتمويل كويتي، المستشفى العسكري، مستشفى السبعين، توسعة وتطوير مستشفى الثورة، توسعة مستشفى الجمهورية.
  • إنشاء المطارات: مبنى مطار صنعاء الدولي، توسيع مطار الحديدة، مطار مأرب.
  • إنشاء المصانع: مصنع عمران للأسمنت، توسعة مصنع الغزل والنسيج وتطويره.
  • إنشاء المراكز الثقافية والفنية: مؤسسة السياحة والثقافة، مؤسسة سبأ العامة للصحافة، المتحف الوطني، المتحف الحربي، المركز الثقافي بصنعاء، المدينة الرياضية.
  • تأسيس سلاح الجو والدفاع الجوي.
  • إجراء أول تعداد سكاني في اليمن.
  • تأسيس اللجنة العليا للانتخابات، وإصدار قانون انتخابات مجلس الشورى.
  • بناء اللبنات الأولى لتوحيد شطري اليمن الشمالي والجنوبي.
  • فرض هيبة الدولة والقانون ومكافحة الرشوة وفساد المؤسسات الحكومية.

 

وعلى الصعيد الإقليمي والدولي كانت له إسهامات مهمة:

  • الدعوة لعقد مؤتمر قمة عربية لوقف الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.
  • الدعوة لتشكيل قوة ردع عربية.
  • الدعوة لعقد قمة الدول المطلة على البحر الأحمر، حضرها رئيس جنوب اليمن حينها سالم ربيع ورئيس، السودان جعفر النميري ورئيس الصومال سياد بري، في حين تجاهلتها السعودية.

يقول أحد الكتّاب “لم يصنع الرئيس الحمدي كل تلك الإنجازات، كي تتلى قصائد تمدح أفعاله أو أغاني تمجد شخصه، بل صنع ذلك وفقًا لرؤية تنموية ودولة حديثة طمح ببنائها”.

 

الحمدي الرئيس الإنسان:

عُرف عن الرئيس الحمدي تواضعه وقربه من العامة والبسطاء، فقد كان يردد دائمًا شعار “نحن خدامٌ لكم لا أسيادٌ عليكم”، وطبق هذا المبدأ في حياته العامة والخاصة.

كان يقوم بزيارات مفاجئة ليلًا ونهارًا لأغلب قطاعات الدولة ليتفقد مدى جودة الخدمات التي تقدم للشعب، والتعرف على مظاهر الفساد المستشري ومحاسبة الفاسدين. يذهب إلى المتاجر والأسواق ليطلع على ثبات الأسعار وتوفر المواد الغذائية، وعدم تلاعب التجار بأقوات الناس.

عدا ذلك، لم يدخر الحمدي لنفسه أموالًا وقصورًا، بل عاش حياة بسيطة في بيت متواضع، حتى الهدايا التي كان يحصل عليها من الرؤساء والملوك والقادة أثناء زيارته لبعض الدول، كان يودعها في خزينة الدولة ويقول: “إنها ملك للشعب ولو لم أكن رئيسًا لما أهديت لي”.

011216_0922_2.jpg

الرئيس الحمدي في منزله المتواضع مع أبنائه

رأى الشعب في الحمدي إنسانًا اجتمعت فيه صفات الصدق والعدل والشهامة والرجولة، والحزم والمحبة للوطن والمواطن والحرص على مصالحهم، في حين حاول خصومه الداخليين من المشايخ والعسكريين، والخارجيين وأبرزهم السعودية التي كان يدين معظم المشايخ لها بالولاء، تصويره كديكتاتور متعطش للسلطة، وهدفوا بذلك إزاحته عن الحكم، وحين لم يفلحوا في ذلك قرروا اغتياله.

تذكر الوثائق الأمريكية السرية التي نشرت مؤخرًا “أن الانطباع السائد آنذاك أظهر بأن السعودية كانت تساند الرئيس الحمدي، في حين أشار أحد التقارير الواردة من السفارة الأمريكية في صنعاء إلى وزارة الخارجية الأمريكية أن الحمدي حمّل السفير السوداني بصنعاء رسالة إلى الرئيس جعفر النميري، يبلغه فيها بفشل اتفاقه مع شيوخ القبائل الموالين للسعودية، ممن تمردوا على الرئيس الحمدي، وبدأوا يشنون هجمات ليلية على مطار صنعاء الدولي”.

وكشف التقرير أن الحمدي طلب من النميري عبر السفير، قبل أيام من اغتياله أن يناشد السعوديين بالنيابة عنه للتوقف عن التدخل في الشؤون اليمنية، والتوقف عن إعاقة بناء دولة مركزية قوية.

 

الاغتيال:

بسبب تعارض المصالح الداخلية لكثير من زعماء القبائل والمشايخ وبعض مسؤولي الدولة، على رأسهم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ محمد الغشمي وعلي صالح وغيرهم، مع دولة النظام والقانون التي فرضها الرئيس الحمدي، وكذلك القلق الخارجي السعودي من تحركات الرئيس الحمدي التي أضعفت نفوذ عملائهم في الداخل، وضع خصوم الحمدي ثلاث سيناريوهات لاغتياله قبل سفره المقرر إلى عدن لبحث مسألة الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب مع رئيس الجنوب سالم ربيع علي.

  1. اغتياله أثناء مأدبة الغداء التي دعاه إليها حسين الغشمي في منزله.
  2. إطلاق قذائف مدفعية على منزله وقتله مع أفراد عائلته، وتم نصب المدفعية في المرتفعات الغربية لصنعاء.
  3. قصف الطائرة التي ستنقله إلى عدن برشاشات مضادة من مطار صنعاء الدولي.

 

وفي نهار يوم 11 أكتوبر 1977 تم تنفيذ السيناريو الأول، وقد أفرد التقرير الصادر عن السفارة الأمريكية سردًا تاريخيًا مكتوبًا لما حدث في ذلك اليوم فيقول: إن السفارة كانت تعلم بأن الرئيس الحمدي كان مدعوًا لحضور مأدبة غداء، أقامها رئيس أركان الجيش اليمني أحمد حسين الغشمي في منزله تكريمًا لرئيس الوزراء عبدالعزيز عبدالغني، العائد لتوه من لندن بعد إجرائه عملية جراحية هناك.

ووفقًا للتقرير، فإن الرئيس الحمدي على ما يبدو نسي أو تناسى الدعوة، وبدأ يتناول طعام الغداء في  منزله وبرفقته أحمد عبده سعيد أحد وزراء الحمدي الذي كثيرًا ما كانت السفارة الأمريكية في صنعاء تستقي معلوماتها منه. وفي الساعة الواحدة والنصف ظهرًا دق جرس الهاتف، فإذا بالغشمي يسأل عن أسباب تأخر الرئيس في المجيء ويلحّ على حضوره، فذهب الحمدي تحت الإلحاح لحضور الوليمة من دون أن يذهب معه أحمد عبده سعيد.

وبعد أن وصل الرئيس الحمدي إلى منزل الغشمي، اسُتدعي ليخرج من بين الضيوف إلى جناح آخر في منزل الغشمي بحجة إطلاعه على أمر مهم، وكان يرافقه أخوه غير الشقيق عبد الله الحمدي والذي كان وقتها قائدًا للواء العمالقة المتمركز في محافظة ذمار، وهناك تم اغتيالهما على يد المتواجدين في ذلك المكان وأبرزهم: أحمد الغشمي وعلي عبد الله صالح ومحمد خميس رئيس الأمن الوطني.

 

011216_0922_3.jpg

محمد خميس      أحمد الغشمي       علي صالح

وتذكر مصادر أخرى، أن الرئيس الحمدي حينما رأى القتلة يوجهون أسلحتهم صوبه عرض عليهم أن يتنازل عن الحكم ويصدر بيانًا فوريًا بذلك، مقابل أن يطلبوا مروحية تنقله إلى خارج اليمن. وافق الغشمي على ذلك لكن علي صالح اعترض بشده قائلًا للغشمي “ستفتح علينا أبواب جهنم إن خرج من هنا حيًا”، ثم أطلق علي صالح ورفاقه رصاصتهم لتقتل الرئيس الحمدي وأخيه عبدالله.

 

 

011216_0922_4.jpg

عبدالله الحمدي

ولتشوية صورة الرئيس الحمدي وطمس الحقائق، قام الجناة بجلب فتاتين فرنسيتين كانتا تعملان في حانة باريسية، وجرى إيهامهما بأنهما ستكونان ضيفتين لدى الرئيس اليمني، ووافقتا على عرض السفر بعد منح كل منهما ما يقارب ستة آلاف جنيه استرليني مقابل تلك الرحلة الدامية. وهناك تم قتلهما وإلقاء جثتيهما على جثة الرئيس الحمدي وأخيه عبدالله لإيهام الشعب اليمني بأنهما قد قتلا في جريمة أخلاقية، لكن تلك القصة الملفقة لم تنطلِ على من يعرفون الرئيس الحمدي.

يلخص التقرير الصادر عن السفارة الأمريكية تلك الحادثة بالقول “إن ما جرى ذلك اليوم كان انقلابًا داميًا لتغيير نظام بأكمله عن طريق استهداف رأس النظام وتشويه سمعته أمام الشعب”.

وبتلك الجريمة أسُدل الستار عن فصل مشرق من فصول اليمن، وبحسب أشخاص كثر ممن عايشوا تلك الحقبة، فإن بلاد السعيدة لم تشهد قدرًا من الأمن والاستقرار وتحسن في الخدمات وظروف المعيشة، وارتفاع في معدل إيرادات الدولة ودخل المواطن، وسيادة القانون وعدالة الحكم كما شهدته في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي.

ولعل اليمن اليوم أحوج إلى شخصية وطنية كالرئيس الحمدي، ديكتاتورًا على الظلمة وإنسانًا مع المظلومين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

التاريخ, اليمن

المصادر

حلم وطن ـ مذكرات إبراهيم الحمدي
أشهر الاغتيالات السياسية في الوطن العربي
شيخ الهرم والحرم عبدالله بن حسين الأحمر
وثائق أميركية تكشف أسراراً جديدة عن اغتيال إبراهيم الحمدي ـ العربي الجديد
إنجازات الرئيس الحمدي خلال 46 شهرا ـ يمن برس
"President al-Hamdi On Yemen's Political Future". Wikileaks Cables >
عرض التعليقات
تحميل المزيد