سفينة ثيسيوس
هناك أسطورة إغريقية تتكلم عن سفينة انطلقت من ميناء ثيسيوس ثم أبحرت حول العالم، وخلال هذه الرحلة تعرضت لعدة مخاطر، دمرت العواصف الأشرعة فتم استبدالها، ثمَّ انهارات ألواح الأرضية واحدًا تلو الآخر ممَّا اضطرهم لتغييرها، وخلال هذه الرحلة وصلت السفينة إلى جزيرة، فاعتزم الملاحون البقاء فيها وعدم مغادرتها، فاستُبدِلوا بطاقم جديد من سكان هذه الجزيرة، وعند عودة السفينة في نهاية هذه الرحلة إلى موطنها الأصلي ثيسيوس، لم يتبق من السفينة الأصلية ولا أي قطعة خشبية أصلية ولا يد عاملة إلا وتم الاستعاضة عنها، والسؤال الذي يطرح نفسه، عندما عادت السفينة إلى ميناء ثيسيوس هل كانت هي نفسها تلك السفينة التي غادرت بادئ الأمر أم أنها صارت سفينة أخرى؟! وقد طرح الفيلسوف توماس هوبز مفارقة جديدة تقول، بعد أن استُبدلت جميع قطع سفينة ثيسيوس بقطع أخرى، أخذنا القطع القديمة لسفينة ثيسيوس وصنعنا منها سفينة جديدة، فهل تكون هذه السفينة الجديدة هي نفسها سفينة ثيسيوس، ولو فرضنا أنَّ السفينتين قد عادتا سوية إلى أرض الوطن فأي من السفينتين ستكون هي سفينة ثيسيوس؟!
مفهوم الهوية
إحدى القضايا المثيرة للعقل البشري مفهوم الهوية، تُعرَّف الهوية على أنها مجمل السمات التي تميز شيئًا ما أو شخصًا ما عن غيره أو مجموعة عن غيرها، أي العلاقة التي يصف فيها الشيء ذاته، سأطرح رأيي في هذه المسألة وسأميز بين نوعين من الهويات، النوع الأول هو الهوية العامة المميزة لشيء ما باعتبارها مفهومًا مجردًا، والثاني يشكل الهوية المميزة لشيء أو فرد ما لذاته. الأولى يُحدّدها الشكل والهوية تتغير بتغير الشكل، متى نقول عن الكرسي بأنه كرسي؟ عندما يتمثل لدينا بالشكل الذي نعرف، ولكن لو فصلنا أجزاء هذا الكرسي كلها عن بعضها بعضا، ثمَّ صنعنا منها طاولة صغيرة، فسيفقد الكرسي هويته وسيكتسب هوية جديدة هي الطاولة، بينما لو انكسرت قدم واحدة أو حتى اثنتين من أقدام هذ الكرسي فسيظل كرسيًا ولن تضيع هويته، ستبقى هذه الهوية حتى نرمي كل أخشابه على الارض، عندها سيتحول هذا الكرسي إلى مجموعة من الأخشاب المرمية هنا وهناك.
إذن فالشكل العام هو الذي يحدد هوية النوع، وأي تغير بسيط في هذا الشكل لا يفقد النوع هويته، فانكسار غصن من شجرة لا يلغي كينونتها كشجرة، ولكن لو صنعنا من هذه الشجرة أقلامًا، فهل نستطيع أن نقول أن هذه الأقلام تملك هوية مطابقة لهوية الشجرة، بالتأكيد لا، وقد يسأل أحدهم.. متى نقول أن النوع قد خسر هويته؟ في اللحظة التي يخسر فيها شكله العام فإن هويته تفقد إلى الأبد، هذا الكلام صحيح بالنسبة إلى هوية النوع، وتحديد الهوية هنا أمر بسيط جدًا، ولكن الصعوبة الكبرى تكمن في تحديد هوية شيء ما لذاته، أي إذا أردنا أن نحدد كيانًا لذاته كسفينة ثيسيوس أو هويتك أنت فلان بن فلان أو كرسي أبي… إلخ، فهذا أمر معقد جدا، وفي الحقيقة لا نستطيع أن نحدد الهوية المطلقة لشيء ما، والسبب هو أن كل شيء يتغير، لا شيء يبقى على حاله، الورد يذبل والشباب يشيخ والحي يموت، لهذا السبب يبقى مفهوم الهوية أمرًا نسبيًا بحتًا يرتبط بظروف مكانية وزمانية، فعلى سبيل المثال لو أخذنا الكرسي الذي تجلس عليه الآن، فهو يختلف عن اللحظة التي اشتريتها به، صحيح أنه قد خضع للتغير إلا أنه مازال يسمى كرسيك، وحتى عند استبدالك لأقدامه بعد تلفها سيظل كرسيك، ولا يمكننا أن نقول في هذه الحالة- رغم كل التعديلات – أنه قد اكتسب هوية جديدة، والآن السؤال الأهم: متى يخسر هذا الكرسي هويته ونقول عنه بأنه كرسي آخر غير كرسيك؟ وأي من السفينتين السابقتين هي سفينة ثيسيوس؟
صراحة هذه أسئلة معقدة، ومن الصعب جدًا أن نصل إلى جواب شاف، الأمر نسبي بحت مرتبط بكثير من العوامل، فلو كان لديك ساعة تحتفظ بها كذكرى من أمك، ثم سرقها أحدهم ووضع بدلًا منها ساعة مشابهة إلى حد كبير، بالنسبة إليك لن يتغير شيء ستبقى ساعة أمك، والمهم ليس الساعة بحد ذاتها بقدر ما كانت قيمة هذه الساعة، لأنها تمثل بالنسبة إليك الكثير فهي كل ما تبقى لديك من والدتك، ولكنها ليست نفسها، ساعة أمك قد سرقت وهذه ساعة مزيفة مختلفة عنها كل الاختلاف، وبالعودة إلى مفارقة السفينة، فإنّي أرى أن سفينة ثيسيوس هي السفينة الأولى التي استبدلت أجزاؤها وليست الثانية التي طرحها توماس هوبز. حتى وإن كانت تملك نفس المكونات، فسفينة هوبز هي سفينة جديدة تم بناؤها باستخدام قطع القديمة، ومثال ذلك كأن نقوم بتغيير قطع كوخك الخشبي ونضع بدلًا منها قطعًا جديدة، ثم نأخد القطع القديمة إلى مدينة ثانية ونبني منها بيتاً بنفس تصميم بيتك القديم، فهل يعني هذا الأمر أن البيت الثاني هو نفس البيت الأول، قطعًا لا، فبيتك مرتبط بعدة عوامل منها المدينة والمكان والشارع وليس القطع المؤلفة له فقط.
عند عودة السفينتين سوية إلى أرض الوطن سينظر الناس إلى سفينة هوبز على أنها سفينة ثيسيوس بسبب امتلاكها لنفس القطع وشكل التصميم، أما إذا أردنا أن نحدد سفينة ثيسيوس الأصلية الأولى بحذافيرها، فستكون مكونة من هيكل الأولى وقطع الثانية، إذن فالأمر نسبي بحت ومن الصعب جدًا تحديد الهوية المطلقة.
تحديد هوية الإنسان
هوية الإنسان وهي ما تهمنا فلا يحددها شكله أبدًا، مع أن الشكل مهم لتحديد الهوية ولكنه مرتبط بمرحلة زمنية معينة، لهذا السبب أريد أن أحدد الهوية الأساسية للإنسان بعيداً عن شكله، إنَّ هيئتك وأنت ابن سنتين مغايرة تمامًا لهيئتك وأنت ابن ثلاثين، ومع ذلك تظل تشعر بقرارة نفسك أنك فلان الفلاني. هذا الشعور يلازمك طيلة فترة حياتك مهما حصل لجسدك من تغيرات، ففي عام 1990 نظر إليك الناس على أنك فلان وفي عام 2018 سينظرون إليك أيضًا على أنك فلان نفسه على الرغم من الفارق الكبير بين الهيئتين في كلا العامين.
لو فرضنا أنَّ إنسانًا قد غاب عن أهله لمدة ثلاثين عامًا، وعاش مع عائلة أخرى واكتسب اسمًا جديدًا، ثم عثر عليه أهله بطريقة ما، فلن يستطيع أن يعترف بأهله إلا بناء على معلومات قديمة جدًا، ذكَّروه بها فتذكرها بصعوبة بالغة، في هذه اللحظة بالضبط سيستعيد الرجل هويته الأصلية، هناك مثال أكثر دقة من المثال الأول، لو فرضنا جدلًا أنَّنا قد استبدلنا بطريقة ما محتويات عقلك كلها منذ سنين طفولتك المبكرة وحتى اليوم، ووضعناها داخل دماغ صديقك، وفعلنا نفس الأمر معك بأن نقلنا محتويات عقل رفيقك إلى رأسك، ما الذي سيحصل؟ سيذهب صديقك إلى بيتكم على أنه بيته، وسينظر إلى نفسه على أنه أنت، وإلى أبيك وأمك وإخوتك على أنهم عائلته، ولو بقينا نقنعه عشر سنين بأنه لا ينتمي إلى هذه العائلة فلن يقتنع، وسيحصل معك نفس الأمر عند الذهاب إلى بيت صديقك، ستذهب إلى كل الأماكن التي كان يرتادها تلقائيًا كون محتواها قد صار مخزنًا داخل رأسك، ما معنى هذا الكلام؟ معناه هو أنَّ هوية الانسان تتحدد بالمعلومات التي كونها خلال رحلة حياته، أنت تعرف نفسك على أنك فلان بن فلان، وأنَّ فلاناً هو أخوك على أساس المعلومات التي دخلت إلى عقلك، ولو اختطفك أحدهم وأنت ابن ثلاث سنين ستكون هويتك مختلفة كل الاختلاف، وستتشكل وفق العائلة الجديدة، وستنظر إلى نفسك على أنك فلان بن فلان مع أنك لا تنتمي إلى هذه العائلة أبدا.
الهوية المطلقة لشيء ما
طالما أن التغير هو السمة الحاكمة لمادة هذا الكون، فلا يوجد شيء في هذا الوجود يملك هوية مطلقة سوى الله، إنه الواحد الأحد الذي لم يتغير منذ الأزل ولن يتغير حتى الأبد، سرمدي قائم بذاته لا يؤثر فيه زمان ولا مكان، وكل ما عداه يملك هوية مزيفة تتغير بتغير الظروف.
«هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم».
«اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚيَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ».
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورا».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست