إن من بين أهم العوامل لبناء مجتمع سوي، هو بناء مواطن سوي مطلع على تاريخه وواع بحاضره، مواطن له القدرة على التفكير والنقد واقتراح البديل، مواطن متشبت بهويته مقيمه.

إلا أن هناك نخبة تابعة فكريًا وثقافيًا للمرجعية الفرنسية اللائكية، تعمل جاهدًا على تكريس التبعية وعدم الخروج عن بقايا الاستعمار الذي ينخر المجتمع المغربي وتركه في التيه لل هوية له، لا هو مغربي ولا هو فرنسي، مجتمع هجين تجرب فيه مخلفات النماذج التنموية لدول الشمال.

يعمل هذا التوجه على تجريد الإنسان المغربي مما تبقى من هويته وتاريخه، ثم عولمته وِفق منظومة تُغيب تمامًا جميع أدوات الربط بين الماضي والحاضر، خصوصًا موضوع الدين في مقابل هناك ترويج مبالغ فيه للمنظومة الكونية الجديدة التي تجعل الإنسان محور الكون وإلهه، فهو الذي يضع القوانين ويُسطر المساطر ويبُتّ في دقائق الأمور بما يُرضي غرائزه وشهواته دون حسيب ولا رقيب.. يتم تغليف كل هذا بمفهوم حقوق الإنسان والدفاع عنه بقيادة زعيمة الإمبريالية الحديثة، إلا أنه بالاطلاع لعمق ما يحدث يستنتج أنه تجريد للإنسان من إنسانيته وطبيعته البشرية.

قد لا أتفق مع كيفية تدبير الدولة أو تنزيل القانون ولا أتفق أيضًا على المقاربة الأمنية التي تنتهج لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ولا أتفق أيضًا مع التشهير بالمعارضين لسياسة الدولة ورصد زلاتهم واقتحام خصوصياتهم والتنكيل بهم.. لكننا لا ما يرهق تفكري هو العمل على تحويل المجتمع المغربي إلى مجتمع بلا ضوابط ولا أخلاق عامة على النموذج الغربي في صورته السوداء، مجتمع إباحي دون قيم أو مبادئ ينتصر فقط للغرائز ويدفع الناس للحرية الفردية المطلقة (تقديس الفرد) وكأن الإنسان يعيش لوحده في الكون لا أسرة لا مجتمع لا مبادئ ولا قيم، في هجوم صريح على الطبيعة الإنسانية التي جعلت من الإنسان سوى رقم في معاملاتها وكائنًا استهلاكيًا لسلعها كما يقول روجية جارودي في كتابه (حفارو القبور): «إن النيو-ليبرالية حوّلت الإنسان إلى ⁧‫سلعة‬⁩ ومسخت منه ثقافته وإنسانيته».

العلمانية الإمبريالية نخرت جسد المجتمع المغربية، فحتى النخبة التي من المفترض أن تكون واعية ومدافعة نجدها قد انقسمت إلى ثلاثة أصناف: صنف يعتري المناصب العليا، مستفيد من الريع ويخدم مصالح المتحكمين ويجتهد في عولمة القوانين مستميتا في ذلك، وصنف يُناضل حقيقةً من أجل حرية المواطن المغربي وكرامته، يكون أمام خيارين إما أن يروّض، وإما أن ينكّل به، وقد أبدع (المخزن) في التعامل معهذا الصنف باستغلال قنوات التواصل الاجتماعي وتوظيف الحياة الشخصية للأشخاص ضدهم سياسيًا وغير ذلك، وصنف أخير آمن بالتغيير، واختار التغيير من الداخل، إلا أنه دخل ولم يخرج، ولم تتغير سوى قيمه ومبادئه.. مشكلتي حقيقةً مع الصنف الأول والأخير لأنهما اختارا الفرد على الجماعة مع كامل الأسف، يسعيان لموت الإنسان المغربي فكريًا، ثقافيًا وأخلاقيًا.. كما يقول روجيه جارودي (الإنسان الذي قتل نيتشه إلهَهُ ممهدًا لقتل جميع قيمه العليا، ومنتهيًا بقتله الإنسان نفسه بعد استنزافه واسترخاصه وتجريده من كل ما كان يميزه عن غيره من قيم وأخلاق وأفعال عقلانية).

نحن اليوم بالمغرب أمام كم هائل من القوانين التي تصاغ بإملاءات من الدول المتحكمة في الإدارة والإرادة المغربية، التي تمت عولمتها وإخضاعها قسرًا للنظام الدولي المهيمن.. متحججين بتحقيق التنمية! فهل يا ترى تحققة هذه التنمية المنشودة؟

النتائج الحالية والأخبار اليومية تُظهر عكس التنمية تمامًا حتى وإن حاولنا تلميع الوضع البئيس لمجتمعنا ومحاكمنا ومؤسساتنا.. المجتمع المغربي اليوم يحتاج لمن يسترد له حريته الكاملة وكرامته دون ضربٍ في هويته، ودينه، وتاريخه. فلا تقدم ولا تنمية بلا إرادة حقيقية نابعة من الهوية المغربية الأصيلة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد