كان صوت أم كلثوم يخترق ترددات الراديو الضعيفة؛ فيخرج موازيًا لتلك الخشخشة التي تلمس بداخلي شيئًا من حنين، بينما كانت الصحراء أمامي على مد بصري ترسل على وجهي نسمات خافتة باردة، معي رشاش آلي تقبض كفي عليه بقوة، وأنا بالكاد أرى تفاصيله في ضوء القمر.
هذا ليس مشهدًا من فيلم إثارة..إنها إحدى ليالي الصيف أثناء خدمتي بالقوات المسلحة..قبل عدة شهور من زمن هذا المشهد لم أكن لأتخيله يحدث لي..ولكنه بطريقةٍ ما قد حدث..وبينما كنت غارقًا في تأملاتي عديمة الفائدة، أتى صوت حسين ساخرًا:
- «ايه يا شقيق سرحان في إيه؟ البت مزعلاك ولا إيه؟ عرفني بس..أنا عارف الحوارات دي كويس وهظبطلك الكلام..أخوك خبرة في البنات.. طب دانا ف مرة».
قاطعته ضاحكًا:
- «خلاص يا حسين هتحكيلي قصة حياتك؟ استلم خدمتك! وأنا رايح أنام».
تركته وذهبت..حسين صديق عرفته داخل الجيش..دائم التذمر..نحيل الجسد..كثير الكلام..سريع التصرفات..لا يكف عن محاولة إقناع من حوله أنه عبقري موهوب..وأنه لديه فيض معلومات عن كل شيء تقريبًا..المال، والسياسة، والجنس، والأمور الاجتماعية..كلها أشياء علم خباياها، بينما كان يحبو..ولكنه ـ فقط ـ الحظ اللعين الذي جعله يرسب في دراسته؛ فكانت مدته في التجنيد عامين..إنه الحظ الذي جعله لا يعمل في أية وظيفة؛ لأن البشر الأغبياء لا يعترفون أنه يجيد أي شيء..لماذا لم يتغير العالم ليجعله غنيًا مشهورًا؟ وبدلًا من ذلك قدره حق قدره..إنه حقًا عالم بائسظ.
كلنا في الغالب لدينا «حسين» أو اثنان في حياتنا. لا لا! ليس هذا فقط، لو فكرت في الأمر ستجد أننا كلنا «حسين»، ولكن بدرجات متفاوته..هل تذكر عندما كنت طفلًا لمّاحًا إلى حد مبهر؟ لطالما كنت الطفل الأذكى والأكثر تميزًا دائمًا في مراحل التعليم الأولى، وفي الجامعة أصبحت تكرر العام وراء العام أثناء دراسة أشياء لا تفهمها، نحن لا تختلف عن حسين كثيرًا..هو فقط لم يستطع إخفاء أوهامه.
نحن نرفض الاعتراف أننا أشخاص عاديون، تراكمت في أذهاننا أفكار تجزم بأننا مميزون، وأن أي فشل نواجهه هو فقط أمر عائد للظروف، توالت السنين ولم يتغير هذا الوهم بداخلنا، فقط أصبحنا مطمئنين؛ لأن تلك الفكرة لن يغيرها شيء، وأن من حولنا يعرفون ذلك، وأن هذا الهراء الذي انخرطنا فيه ما هو إلا فترة سوف تخرجنا منها قدراتنا الاستثنائية.
هل تريد معرفة الجانب الأسود في الأمر؟ وجودنا في هذا الهراء يعتمد في الأصل على تلك الكذبة التي تقول إننا استثنائيون، تلك الكذبة التي أصبحت تسيطر على كل شيء، وتجعلنا نركن إليها، ونحن في أمس الحاجة إلى انتفاضة داخلية، ولكن الحقيقة أننا كالآخرين، والآخرون كالآخرين، كلٌ يظن أنه مميز، ولا فائدة من ظنّك إذا كان الكل كذلك.
وإذا نظرنا إلى الأشخاص الأكثر نجاحًا في العالم سنجد أن بينهم من لم يكمل تعليمه، ومنهم من كان شخصًا أقل من العادي. نحن ننشر تلك الأشياء يوميًا على صفحات التواصل، متباهين أن فلانًا نجح، بالرغم من أنه لم يكمل تعليمه، لذلك يجب أن نحذو حذوه ونتوقف عن الدراسة فورًا، فلنمنع هذا التعليم المقيت الذي يحتاج إلى مجهود بالرغم من أننا مميزون بدونه، ولنمرح.
ولكن الحقيقة أن هؤلاء الناجحين كانوا أشخاصًا بعيدين كل البعد عن وهم التميز، وقريبين كل القرب من الاستعداد لبذل الجهد، فقد عرفوا أنها معادلة بسيطة «مجموع الجهود يساوي التميز. ومجموع الأوهام يقضي على ما بقي من الموهبة».
الأمر ذاته ينطبق على الدول، فالشعوب التي تفخر بماضيها وتميزها في حقبة مضى عليها قرون غالبًا هم الآن من دول العالم الثالث، تلك شعوب قد تفقد أي شيء وأية فرصة، وقد يقبلون هذا بنفوس راضية، ولكنني على يقين أنهم لن يتحملوا فقد أوهامهم؛ فهم يعزون تأخرهم على مر الأعوام إلى البعد عن الدين أحيانًا، وإلى المؤامرات الخارجية أحيانًا، أو إلى آلاف الأشياء، كل الأسباب واردة للتأخر، ماعدا أنهم كسالى خانعون.
قد أختلف أو أتفق في أشياء كثيرة مع الحقوقي «وائل عباس»، ولكنني لن أتردى إلى حافة التحامل لأنكر عبقريته. أذكر أنه قد كتب شيئًا في بداية هذا العام عن أعياد الكريسماس في مصر، كان يسب ويشتم كل شيء كعادته، قال نصًا «إيه يعمل الكريسماس في وطن ضايع!» أعتقد أنه لم يبتعد كثيرًا عن المعنى الذي أردته؛ فأنا لطالما رأيت أن الاحتفال بالكريسماس في مصر درب من البجاحة، فلا أعتقد أن تفعل الأوهام والأماني شيئًا في ظل حقائق فجّة.
لطالما أحاول تفادي كثرة الاقتباسات فيما أكتب، ولكنني أعتقد أن ختامي بمطلع هذه القصيدة يلخص كل شيء، يقول «محمود درويش»:
هل كان علينا أن نسقط من علو شاهق..
ونرى دمنا على أيدينا..
لندرك أننا لسنا ملائكة كما نظن؟
وهل كان علينا أيضًا أن نكشف عن عورتنا أمام الملأ
كي تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء
أن تصدق نفسك أسوأ من أن تكذب على غيرك..
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست