القصة هذه المرة عن طفل وطفلة لقناهما وهما صغيران أهم مبادئ الحياة، وقد ائتمنا عليهم، أشربناهم خرائط طرق الوصول فصدقونا، أمسكنا آذانهم لنصب بها خلاصة ثقافات بالية وتجارب فاشلة فقلدونا، لقناهم مع الفاتحة العادات، ومع حب الله حب الدنيا، ومع الصلاة لله الصلاة في محراب الحياة، وجعلناهم فرس رهان في سباق لا ينقطع حتى ينقطعوا، ولا يتنفس عنهم فيه إلى أن تنقطع أنفاسهم، وهم دومًا في اختبار لإثبات جدارتهم للحب والحياة التي مُنحوها، وكان الاختبار اجتياز امتحان!
امتحان استحقاق
الثانوية، اختبار ثبات الأعصاب، اجتزه لتثبت أنك محترم، مجتهد، تستحق الحياة، وتقدر مجهود والديك، وتأخذ معك صكوك الرحمة والغفران، فأنت مرضيّ عنك في الأرض مذكور في السماء! حصّل الدرجات لتنل المقامات، ولا تُشمت بنا طنط اعتماد؟!
صُنع القوالب العقلية
لما كان الطفل صغير لُقن إن كان ذكرًا إجابة سؤال كنا أحرص عليه من سؤال القبر؟!
السؤال: «عاوز تطلع ايه لما تكبر؟!».
وكانت الإجابة النموذجية في سلاح التلميذ مهندس أو طبيب أو ضابط، وللفتاة طبيبة كخيار وحيد، وإذا أخطأ الطفل نعوذ بالله من الضلال وسوء الاختيار فاختار مهنة غير مناسبة كمدرس مثلًا أو طيار، تبدأ المحاضرات والندوات، ويصبح قلب الأم والأب سريع الدقات، فالولد أوشك على الانحراف عن طريق محفور بالصخر، وأمست أحلامهم في خطر بعد أن كانت على وشك أن تجد من يسعى لها؛ فتمتد أعمار أحلامهم بامتداد أعمار الأبناء لتحقيق الحلم المقدس، الذي فشل فيه الآباء -يورثون حلم زمنٍ مضى لزمنٍ آت؟! فما أثقله من ميراث- وهكذا لقن الحلم للولد مع عقيدته فكان راسخًا كرسوخها؟!
نهاية حلم حقيقي
كبر الغلام، والفتاة تجلت أنوار تميز الشخصية وتلألأ الاختلاف والتمايز، وتحدت صنعة الله قوالبنا، أصبح أحدهما يجيد الرسم، والآخر يجيد الكتابة، وبعضهم قد حبسته القولبة القديمة والحلم الواهي أن يجد نفسه، أو ينقب عنها فبات مفرغًا حتى من حلم يخصه، وبدأ صوت الحلم الملقن يخفت شيئًا فشيئًا، ليسمح للمولود الجديد بالظهور ولكن، يعيقه سقط الأفكار، وبهرجة الصورة الزائفة، ثم إذا التفت إلى المجتمع ليرى العائلة تتحدث عن دكتور فلان، ومهندس فلان، باحترام منقطع النظير، أما غيرهما فلان المحاسب أو الفني، فلا بأس هما «مين يعني؟!».
يشتعل ما خفت من شعلة حلمٍ واهٍ، ومع زيادة تميزه في شيء أو تفوقه في رياضة معينة قد تبدأ من جديد نبتة حلم جديد تُروي بحبه وشغفه، ثم يقدم من بعيد وحش العادات ليهدد، ووحش الشعور بالدونية ليشجب، ثم وحش الثانوية ليقتل.
الثانوية صخرة تحطم الأحلام
تأتي الثانوية بضغط نفسي ومادي شديد، وإحساس بالتهديد الدائم، تهديد بسحب الحب والاحترام من الطالب إذا لم يأت بما لم يأت به الأوائل من الدرجات والمجموع، تهديد بفقد الاحترام لأنه طالب فاشل، تهديد بالعار والدمار؟! حيث انهار تاريخ العائلة المجيد الذي خرج منها دكتور، ومهندس، ومعيد، فيبدأ الولد بالاجتهاد قدر ما أعطي، قد يهمل أحيانًا فقد يكون التحصيل الدراسي لا يستهويه، ثم يعود أدراجه للوهم الكبير، ويحاول إزكاء الوهم بما استطاع، لا بأس من أن يسبق نفسه بلقب «م.» أو «د.» ليشعل نارًا هو غير قادر على الحفاظ عليها باستمرار، وتمر الأيام، وتأتي الامتحانات، ثم…
صدمة متوقعة
الصراخ والعويل، لقد فشل، أضاع المجهود، ظُلم والله! أين الدروس والمصاريف! يا شماتة طنط عدلات واعتماد وابن خالة الواد.
الغريبة أن الأهل والأحباب لا يطرق عقلهم سؤال بسيط، هل الجميع لا بد أن يكونوا أطباء ومهندسين؟!
أظن أن الإجابة دائمًا في ذهنهم، لنكن نحن أطباء ومهندسين وليصبح باقي المجتمع شحاتين.
ولكن هل انتهت المشكلة عند الطالب بضياع المجموع الكبير، وتبخر الحلم الأثير؟
المشكلة لا تنتهي عند هذا، فالثانوية قد تترك في نفس الفتى والفتاة شرخًا عميقًا جدًّا في الثقة بنفسه، قد لا يستمتع بما كان يجيده سابقًا ولو لفترة، سيشعر بالنقص مرارًا كلما تعامل مع من يسبقه «د.» أو «م.» حتى لو كان هو أكثر ثقافة، وأعلى خلقيًّا واجتماعيًّا وماديًّا بدرجاتٍ منهما.
قد يكون الحلم قد استغرق الفتى والفتاة فنسمع عن انتحار فلان وفلانة لأن المجموع منخفض، فالأمر أكثر رعبًا مما نتوقع.
وهم المكانة
أسألُ سؤالًا: ماذا ارتئيت في الطبيب والمهندس حتى ظننت أن وضعهما مثاليًا لهذه الدرجة؟ ألقب كفيل بأن ينهي حياتك؟ أو يقتل حلمك؟ أو يضعف إيمانك بنفسك؟ اسأل الطبيب عن مهنته، بمن يحتك؟ وماذا يساوي راتبه؟ وكيف تنتزعه مسارات الحياة من أهله وأسرته؟ وأسأل كذلك المهندس، واخرج من حالات التقديس، وكن ذكيًا لا عبدًا لأحلام الآخرين، اعرف كم طبيب يتخرج سنويًّا، وكم مهندس يتخرج سنويًّا، واعرف كم من هؤلاء يقبلهم سوق العمل وكم يلفظهم، وما هو سوق عملهم، وطبيعته؟ اسأل نفسك هل أنا تناسبني أصلًا هذه المهن؟ هل يمكن أن أشعر باستمتاع حقًا إن مارستها بعيدًا عن بهجة الصورة الزائفة المصطنعة للرداء الأبيض والسماعات، ومسطرة المهندس ولوحاته، ولا تخش الإجابة، ولا توهم نفسك بخلاف الحقيقة، كن رجلًا للحظة وقف عكس التيار إن كان هذا ما تحب.
وقفت عكس التيار فجرفني؟! ماذا أفعل؟
قد يقول أحدهم حاولت دخول إحدى الكليات حبًّا وشغفًا، أحب دراستها ولن أملها، لكن أعجز حيلتي المجموع، وقصرت بي درجاتي عن الوصول إلي أعتابها، أقول:
إن كانت من الكليات المهارية فلك أن تكتسب علمها بدون دخولها إن لفظتك، وبإمكانك تحقيق ما تمنيت ككليات اللغات، وإن كانت مما تتطلب شهادات للممارسة فانظر إلي نظائرها إن وجدت، فمن أحب الطب النفسي ألتحق بكليات علم النفس والاجتماع، ومن شغف بالطب عامة، لديه كليات التمريض، ومن أحب الهندسة قد يلتحق بالمعاهد الفنية فتروي جزءًا من شغفه، ولكن إذا أجاب السائل:
وهل الطب كالتمريض والهندسة كالمعاهد المتوسطة؟!
اسأله مستدرجةً ما الاختلاف؟! واعلم بماذا سيجيب. وسأدعوه عندها لأن يحترم عقله ويعيد القراءة بعقله لا بلسانه.
تربية العقول أمانة
ربوا أولادكم أن الأول في حياتهم هو الله لا الحياة، وأنه لا مقارنة بين مكانتهما ففي أى الكليات سأؤدي رسالة الوجود، وبأي وسيلة سأكون الخليفة الموعود، ربّوهم أن من يعشق شيئًا سيكون فيه الأفضل ولو عامل نظافة، وأن رسالة الإسلام رسالة تميز وإتقان، علمّوهم أن الاحترام المصطنع لتلك المهن هي فخوخ كبيرة نحن من صنعناها وسقطنا فيها، ولئن استيقظنا ووجدنا آباءنا يقدسون رعي الغنم سنقدسه.
واحترم عقلك يا عزيزي
للحظة واحدة احترم شخصك ومهارتك وأدرك نقاط تميزك، وقل للمجتمع:
تبًا لأفكاركم البالية، وتبًا لأحلامكم الواهية، سأعيش حلمي الذى يشبهني، وسيحترمني الجميع عندها، وإلا فلا حاجة لي باحترام أحد، يكفي أني أحترم نفسي فلست كالكثير مساقًا كالبعير ولا تنس، لست لقلبًا
لست لقبًا
لست حرفًا لست صوتًا أنت نغمة
أنت كلمة.. أنت معنى أو قصيدة أو عريضة
أنت فكرة.. أنت قصة.. أو حقيقة.. لست لقبًا
أنت روحًا حرة في كل وادٍ. أنت فكر قائم من عصر عاد
أنت حلم هائم بين العباد. لست جثة أنت قصة
أنت عزم نابت في حقل فلاح نشيط
يبذر الصبر ويروي عصبك بالإباء
أنت حي في فضاء
أنت عصر حاضر… أنت باق.. بلا انتهاء
لا تثن عزمك لا تفل.. أنت أقوى.. لا تضل
انظر بعينيك إلى ما وراء السراب.. لا تهن أو تمتهن.. أو تلوي أعناق الخيال فأنت أنت بلا مثال.. لا ترتضي سفح الجبال.. فلست لقبًا.. لست حرفًا.. أنت قصة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست