التواصل كلمة تعددت تعريفاتها وتشعبت مدخلاتها وتَـقاطعت فيها العديد من المباحث في علم النفس، وعلم الاجتماع، وفلسفة اللغة واللسانيات والأنتروبولوجيا.. لتقديم تعريف جامع ودقيق للتواصل. فإذا كان مفهوم التواصل قد اغتنى مع اللساني جاكبسون الذي اعتبر وظيفة اللغة تواصلية، فإن التواصل لم يعد ظاهرة لسانية، بل مفهومًا يُحيل على ظواهر إنسانية عديدة، سوسيولوجية، وسيكولوجية، وسياسية، وثقافية، وتربوية وجمالية.. فرغم هذا التعدد والاختلاف بين الباحثين والعلماء، فالثابت هو أن التواصل مصدر للفعل تَـوَاصَــلَ ونجد الوصْـل هو خلاف تصارم.
والثابت أيضًا أن التواصل أساس الحياة الاجتماعية، فنوربرت سيلامي يعرفه على أساس أنه علاقة بين الأفراد، وهو ما عبر عنه أيضًا كَوستاف فلوبرت بقوله: إن الأنا هو الآخر. ويربطه فرويد بالإدراك وباللغة والحركات والإشارات وبكيفيات غير عقلانية مثل تواصل الشعور باللاشعور، والذي يعبر عنه بقوله: إن الذي تصمت شفتاه يتكلم بأطراف أصابعه. فالتواصل حاجة ضرورية للإنسان ولابد من إشباعها، ألا نجد أفرادًا يتخذون مواقف لمجرد أنهم سمعوا عنها، حتى ولو لم يتوصلوا عنها إلا بأنباء نـاقصة وباهتة ومعتمة؟ فالأفراد يندفعون تلقائيًا لأجل اتخاذ مواقف، ولا يقدرون على التتبع بحيادية ودون رد فعل ويعتبرون الحياد قلقًا لا يطاق وعدما قاتلًا، وهذا يدل على أن التواصل حاجة نفسية حميمة، وهناك من يعتبرها من قبيل العلاج النفسي لما له من آثار إيجابية عند تحققه على الصحة النفسية للأفراد، ومن آثار سلبية مدمرة عند غيابه على الفرد والمجتمع ككل، وهذا ما عبر عنه بول فاتسلافيك بقوله: إنه لا يمكننا إلا أن نتواصل. فحتى في اتخاذ موقف العزوف عن التواصل تحت أي ظرف معين ففي ذلك الموقف تواصل لأنه يحمل رسالة إلى المُـخاطب مفادها أننا نرفضه أو نمقته أو نكرهه أو نتمرد عليه أو نحتج عليه. إذًا فالحياة هي شبكة من التواصلات التي لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة بالنسبة للذات، (التي من الممكن أن تتواصل في العالم الآخر بكيفية تختلف باختلاف التصورات التي تُـقدمها الأديان)، فالإنسان يقوم بسلسلة من التواصلات مع ذاته وغيره بمختلف الأشكال (مباشرة وغير مباشرة مادية وغير مادية) يُـرسل رسائل ويتلقى أخرى بقصد تيسير العيش، وإغناء التعامل مع الحياة.
إن الإنسان على علاقة دائمة بكل ما يُـحيط به، والتواصل شكل وجودي أساسي له، من خلاله يرتبط بالأشياء وينشئ معاني، ويضع تصورًا عن الآخرين وعن نفسه، فيقف الفرد بمثابة فاعل في مجتمعه مندمجا مع محيطه، من خلال وسائل الاتصال بمختلف أشكالها، فالفرد قد يُـصبح مدمنًا على قناة ما، بفضل الإشباع الذي يتحقق له فيها، فما أن يَـمل شخص من استعمال قناة ما، حتى ينتقل إلى استعمال قناة أخرى، ومنه نستنتج أن التواصل سيرورة مُجتمعية مرتبطة دائمًا بعمليات التواصل التي سـبقتها، مما يعطينا سلسلة تواصلية.
ولأن الإنسان دائمًا بحاجة إلى الصلة وهي أساس وجوده، فيكفي إلقاء نظرة بسيطة عن التحول الذي طرأ على حياة الأفراد اليومية، من خلال اتصالهم بهواتفهم وحواسيبهم – الإعلام الجديد عمومًا – فبداية حياة الإنسان التي هي في الأصل كانت بين الأب والأم، ثم انتقلت الصلة إلى المحيطين بهما وأقاربهما لتتعدى تلك الحدود إلى الاتصال بالتلفاز، وضربت بمثال أعلاه الإدمان على القنوات التلفـزية والالتصاق بها، وانتقاله إلى وسائل التواصل الاجتماعية لتصبح فاعلًا فيها. ويتعدى بذلك التعرض إلى الأخبار والمعلومات التي
تُـعتبر اتصالًا، إلى درجة أكبر يتحقق فيها الاتفاق والاختلاف والتفاوض الناتج عن رغبة صادقة في صلة الآخر، وهذا هو ما يسمى تواصلًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست