منذ سنوات وأنا أتأمل المعاناة والأسباب الحقيقية التي تدفع اللاجئين السوريين لركوب أمواج الموت المتلاطمة بحثا عن حياة أفضل، بينما لا ينقضي عجبي وأنا أتأمل، منذ أيام، سيلا من الفتاوى والتحليلات وآخر من التخوين الأرعن لهم.

 

السادة العلماء وهم يصدرون فتاواهم حول حرمة الإقامة في ديار الكفر يغفلون عن حقيقة أنه لا دار إسلام اليوم (بالمعنى السياسي) توجب عليهم ذلك، وحقيقة وجود “بلدان إسلامية” أو مجتمعات مسلمة لا تعني بالضرورة وجود الكيان التاريخي المسمى في كتب التراث الفقهي “دار الإسلام”.

 

ورغم أنهم يقرون بجواز الهجرة اضطرار، مستشهدين بهجرة الحبشة الاولى التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بها، قائلا لهم: “إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد”، إلا أن مجرد الحديث عن الضرورة هنا ينطوي على مغالطة تقول إن المسلمين اليوم لهم دولتهم التي تحميهم وترعى شئونهم بوصفهم مسلمين فقط، وهو ما يبدو إلى الخيال أقرب منه إلى الحقيقة.

 

الحديث عن فتنة الناس عن دينهم ينقضه أمران، الأول أن هذه الفتنة تتحقق في بلاد المسلمين، غالبا، بأكثر مما تتحقق في البلاد التي يقصدها المهاجرون، والثاني أن اللجوء والهجرة والنزوح فرارا من ظروف الحرب والجوع والفقر لم يبدأ أمس، ولا مع إعلان حكام العرب الحرب على شعوبهم قبل سنوات، بل منذ أكثر من قرن، وأدى هذا الأمر لنشوء مجتمعات مسلمة كبيرة في الغرب، بعض المسلمين اندمج في المجتمعات الغربية بالكلية، لكن الكثير منهم حافظ على ثقافته وهويته، بل أنشأ ظاهرة دعوية متقدمة على معظم الظواهر الموجودة في بلدانهم الأصلية.

 

أما المزايدين الأشاوس، سواء كانوا داخل سوريا – وما أقلهم – أو كانوا خارجها، وهم الأكثر، فلا يستحقون سوى أن يبصق أطفالنا على وجوههم جزاء مزايداتهم ومشاعر الشماتة التي أظهروها حيال من ابتلعت البحار أجسادهم، أو قضوا خنقا في سيارات المعدة لنقل اللحوم المخصصة للغذاء البشري، ليكونوا بذلك غذاء بشريا أيضا، تلوكهم أفواه وألسنة، حجزت لنفسها مقعدا في مستنقع الخزي والعار، بجوار الشبيحة الذين وافقوا أولئك في إظهار الشماتة بموت الفارين بأنفسهم من جحيم الأسد، على اعتبار أنهم أشعلوا الثورة وتركوا النظام يواجه “الإرهاب”.

 

الفرار من الزحف والتخلف عن الثورة والاستهتار بالأعراض والركون إلى الدنيا تهم سخيفة يعرف أصحابها قبل غيرهم أنها فارغة من مضمونها، فلا الذين اختاروا البحث عن حياة أفضل قرروا ذلك لحظة حملهم للسلاح أثناء المعركة، ولا هم انسحبوا من ثغور كانوا يسدونها وتركوها لغير أهلها.. هم بالمجمل عائلات ومستضعفون لا حيلة لهم، عجزوا في ظل جحيم متكامل الأركان في الداخل، سواء في المناطق المحاصرة أو تلك التي يسيطر عليها النظام، عن سد رمقهم، أو تأمين أطفالهم بعيدا عن متناول الموت أو الخطف أو الجهل.

 

كيف يمكن لأحدهم أن يستنكر على الناس فرارهم من الفقر والجوع والخوف، والله تعالى أمر خلقه بعبادته، إذ امتن عليهم بالطعام والأمن، فقال: “فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف”. وهل ينكر هؤلاء أن الشباب في بلادنا لم يكن أقل ضياعا و أكثر بؤسنا من واقعهم اليوم؟ وهو الواقع الذي ما فتئ يقذف بهم فرادى إلى ذات البلدان الأوروبية التي يقصدونها اليوم، طمعنا بحياة كريمة وعمل يغنيه عن ذل السؤال ويبعده عن مهانة العجز، وحرية لا تنقص من حقوقهم الدينية والثقافية شيئا.

 

صحيح أن أعدادا كبيرة هاجرت في موجة اللجوء الأخيرة، وقد كان أمامها خيارات أفضل وأقل تكلفة عليهم، وصحيح أن من هاجروا ووصلوا إلى حيث قصدوا سيتعرضون لكم هائل من المشاكل التي ستواجههم دينيا واجتماعيا وثقافيا، وربما لن ينعموا بالاستقرار الكامل قبل أن يمروا بتجارب عسيرة، إلا أننا أمام ما يسميه جميع المعنيون بمأساة العصر، لا نملك إلا أن يثابر كل منا على ثغره، ويقدم كل ما يستطيع لإنهاء المعاناة بإزالة رأس الإجرام والإرهاب في سوريا، وحتى ذلك الحين، لن نلوم أحدا بحث عن مستقبله بطريقته الخاصة.

 

وبعموم البلوى لا تصح الفتوى، لا سيما عندما يكون الغرض منها تحذير الناس من أمر قد يكون مضرا بهم فعلا، وقد لا يكون، بل إنما تصح تلك القاعدة التي تقول: كل امرئ مفتي نفسه، فهو أدرى بخياراته وبإمكانياته، وبمتطلباته، وكل ما يمكن، بل يجب، أن يقدم له في هذه الحال هو النصيحة والاستشارة.

 

شخصيا لم يستشرني أحد بشأن الهجرة إلا بينت له مساوئها قبل محاسنها، لكنني ما زدت على أن طلبت منه أن يتمعن في حاضره ومستقبله جيدا ويختار ما يرتاح له ويعتقد أن فيه المصلحة والخير عليه وعلى عائلته.

 

نصيحتي لأصحاب الفتاوى والآخرين من أصحاب المزايدات: كونوا ناصحين، فالمستشار مؤتمن، ولا تفرضوا على الناس ما لا يجب عليهم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد