لو أن أحدًا ذهب في رحلة فضائية أوائل أبريل بعد ألفين وعشرة أعوام من الميلاد واستمرت تلك الرحلة خمسة أعوام قُطِّعت بينه وبين اﻷرض جميع الاتصالات وأصبح لا يعرف شيئًا مما حدث طوال تلك اﻷعوام وقد عاد للتو، أو أن آخر غمرته غيبوبة مرضية طيلة تلك الفترة واستفاق اﻵن ورأى كل منهما ذلك المشهد وتلك الصورة التي يظهر فيها كل من جمال وعلاء مبارك وهما يقدمان واجب العزاء في والدة مصطفى بكري صحافي كل اﻷنظمة – لولا مراعاة الذوق العام لوصفته بما يليق – لأدرك اﻷول أنه لم يبق في الفضاء إلا عدة أيام واﻵخر أنه لم يبقَ مغشيًا عليه وفي حالة إغماء إلا لبضع ساعات من الزمن، ولم يكن ليشك كلاهما ولو للحظة أنهما في غير مساء يوم 10 أبريل من عام 2010.
أشدُّ المتشائمين إِبان ثورة يناير لم يتوقع أن يأتي اليوم الذي تدوس فيه أقدام رؤوس نظام مبارك وفلول الحزب الوطني وعلى رأسهم ابنا مبارك جمال وعلاء أرض ميدان التحرير التي ارتوت من دماء شهداء ثورة يناير المجيدة في سبيل جلب حرية لا يملكونها لشعب لا يستحقها ولم يقوَ على الحفاظ عليها واليوم قد رأينا ذلك يحدث حقيقة لا حُلما ولا مُزحة، أكثر المتشائمين رغم اقتناعهم بصُوريَّة المحاكمات وبأُكذوبة شموخ القضاء المصري حين شاهدوا تلك الوجوه داخل أقفاص الاتهام لم يخطر ببالهم ولو لِوهلة أنهم سيصبحون يوما طُلقاء في الوقت الذي يحكم فيه على خيرة الشباب بعقوبات وصلت إلى السجن المؤبد واﻹعدام التي كان آخرها وأنا أكتب هذا المقال؛ فقد أصدر أحد أشمخ قضاة مصر على الإطلاق هو أقل من أن نذكرهُ حكمًا بإعدام 14 والسجن المؤبد لـ37 آخرين معظمهم من المنتمين لجماعة الإخوان أو المنسوب إليهم ذلك؛ وغيرهم في السجون ممن ينتمون إلى تيارات سياسية أخرى شاركت في الثورة.
حين مرت من أمامي الصورة لم أرَ فيها هؤلاء الذين يُظهِرون الحزن وأنهم يتبادلون التعازي ويُبطِنون رقصهم والضحكات على جثث أحلامنا الهامدة وكأنهم يُخرجون لنا ألسنتهم ويقولون هذه البلد ملكٌ لنا نحن وهذه المناصب والكراسي إرثنا وأبنائنا من بعدنا، لا تفكروا يومًا أنكم ستسيِّرونها حسب ما تحلُمون من حريّة أو سترسخون يوما مفهوم الديمقراطية ونحن نحيا فوقها، نحن فقط من نملك مفاتيح خزائنها، نحن فقط من نملك فن ترويض عنفوانها، هي في اﻷصل لا تضحك إلا لنا.
وكأنهم لم يدركوا بعد أننا قد حفظنا الدرس جيدًا ونقشناه على صدورنا كي لا ننساه أبدًا، وأننا على يقين العلم من صدق ما يودون قوله، إنهم بالفعل يملكون مفاتيح خزائنها لكن اﻷقفال صنعت هذه المرة من أجساد شهدائنا نحن لا من بؤس الحديد الذي يصنع بنادقكم، شيء واحد كنتم اﻷصدق فيه، مصر لم تبادلنا يومًا الحب الذي ولد فطريًا معنا، حين كنا نرى أنيابها فنحسبها تبتسم لنا ونستيقظ على هول فاجعة لنراها قد افترست من طاب لها اليوم، والبقية ينتظرون دورهم.
لمّا رأيت الصور رأيت فيها أياديَ خضبت بدماء ما كان لهم من ذنب غير كلمة وهتاف لينالوا حريتهم، لم أرَ فيها غير وجوه شباب قتلى وجرحى ومعتقلين ضحوا بشبابهم وحلمهم في مستقبل وأسرة وأطفال وبالطبع حياتهم في سبيل أن تواكب مصر ركب الدول المتقدمة تحفظ الحقوق وتراعي الحريات من أجل أن تكون دولة محترمة يكون للفقير من شعبها اﻷولوية، تذكرت وما كنت ﻷنساهم ورودًا لم يبخلوا بأرواحهم في سبيل أن يتركوا لنا إرثًا نفخر به، آه لو رأيتم ماذا حل بإرثكم، وماذا صنع به من خلفوكم، نحن نفخر حقًا بكم وسنظل نقتفي أثركم حتى تصير السماء دخانا.
فالثورة وأنتم كما رابعة ومحمد محمود وغيرهما من المجازر ولاءٌ وبراء وجب علينا اﻹيمان بها، أنا لست من الذين يهوون النَّدب كلما وقعت حادثة كتلك أو غيرها كخروج رجالات ذلك النظام من السجن على تتابع أمام أعيننا ونحن صمٌ بكم لا نقدِرُ على شيء ممّا كسبوا، لكن النّفس تأبى على من كان منها أن تشعُر به يئنُّ في صمت، فاليوم نبكيكم بحُرقة لم تسبقنا إليكم مثلها من قبل، فنحن حتى اﻵن لم نستطع أن نأتي بحقكم الذي وعدناكم، بماذا سنجيبكم يوم تسألوننا عنه؟ وأين سنواري أوجهنا منكم أسنُمسِكها على هونٍ أم سندُسّها في التراب؟ فمُصابُنا فيكم أليم ومُصابنا من تقصيرنا تجاهكم جلل.
وآخر من راودني خيالهم في تلك الصورة كانوا أمَّهاتٍ ثَكلى وأطفالًا يتامى كانوا يُتمتمون بكلام لم يطرق أُذني منه غير جملة واحدة “لقد كُنّا في غِنى عن ذلك كله”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست