يعود إلينا الرئيس أبو مازن في ذكرى رحيل القائد أبو عمار بذكريات مختزلة عن شخص بقضية، وقضية بشخص تتماثل على وقعها أحداث وأزمان، وإن تلونت وتبدلت حسب الظروف، كلحن بنغمة واحدة وكتاب في كلمة «فلسطين».
هي في الاختصار كلمة، وفي الشرح سطور، وفي اللفظ لحن، وفي الفهم علوم، فهل العلة في الأصل؟ أم في المضمون؟
فلو عدنا لتحليل حادثة الاغتيال وتفسيرها، ألن نجد احتواءها على أسئلة مكررة وأجوبة معلقة تتشابه في أشكالها وأزمنتها مع غيرها من وقائع وأحداث وأشخاص كدائرة مفرغة تدور بنا وندور بها دون كلل أو ملل، أو حتى لا يحملنا اليأس أو التعب على الوقوف والنظر في خط مستقيم والسؤال إلى متى.
في تكرار في النص والمضمون يتكلم أبو مازن بأنه يتابع عمل اللجنة المكلفة بالتحقيق في حادثة الاغتيال، وأنه بات يعرف ومتأكد من القاتل، ولكن شهادته لا تكفي، وسوف تعلن اللجنة النتيجة، وسوف نفاجأ من هو القاتل، بإشارة مبطنة لاتهام القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان.
ليرد الآخر بكلام مكرر عن الاتهام باعتبار أبي مازن هو المستفيد الوحيد من اغتيال القائد أبي عمار، ولديه ما يؤكد ذلك، ونحن، وإن جمعتنا الكلمة على ضيقها، كشعب ووطن وقضية لا ندري ما الجديد، وهل يعيد الميت كل هذا النحيب والوعيد.
فالرئيس أبو مازن يسعى مع اقتراب موعد المؤتمر العام لحركة فتح إلى تحضير سلسلة من الإجراءات؛ لترسيخ دوره في زعامة الحركة والسلطة معًا، وخصوصًا بعد صدور قرار المحكمة الدستورية بجواز رفع الرئيس الحصانة عن أي عضو من أعضاء المجلس التشريعي في انتهاك واضح للدستور، وهذا يصب في جوهر الاتهامات الموجهة إلى محمد دحلان وما تبقى له من منصب في المجلس التشريعي، بعد التخوف الذي يبديه أبو مازن وبعض قيادات فتح من ازدياد مناصريه في الحركة و داعميه إقليمًا وعربيًا كبديل له في رئاسة السلطة الفلسطينية.
ومن هنا بدا واضحًا أننا أصبحنا نقلب الأوطان على رحى الأشخاص، ونعجن ونخبز ما نشتهي ونستطيب غير آبهين بما تريد الشعوب وتطمح.
ألم تكن الهبة الشعبية في الضفة الغربية، وعمليات الطعن والدهس التي يقوم بها الشباب الفلسطيني من كلا الجنسين ترجمة واضحة عن عجز الفصائل الفلسطينية كافة بتلبية آمال كوادرها وأنصارها وطموحهم بتحرير الأرض والإنسان، ودليلاً على خروجها حتى بصوت واحد في وجه العدو، والتأكيد أن المقاومة هي الحل الوحيد لاستعادة الكرامة الوطنية.
ألم تكن هذه الهبة، رغم عفويتها وعدم تنسيقها وتنظيمها وكلفتها من دماء الشباب، مؤلمة ومرعبة للعدو أكثر من كل الخطابات والمهرجانات والمسيرات والياقات وحتى الهامات الوطنية وغير الوطنية.
لأن العدو يدرك تمامًا أن الشباب لم يعد يملك إلا روحه ليقدمها فدوى للكرامة والعزة والحرية المنشودة لاستعادة الأرض المغتصبة، إن العدو يستطيع فعل ما يشاء، وتفريق من يريد وتقييد من يقرر، وتجويع من يخاف، ولكن لا يستطيع أن يمنع أحدًا من التضحية بروحه متى يشاء، ولأجل ما يريد؛ فهذا هو الخطر الأكبر والتهديد الأبرز في استمراره وبقائه على هذه الأرض المغتصبة.
فهل لك سيدي الرئيس أن تدرك، كما أدرك أعداؤك، بأن هذا هو الحل الوحيد لاسترجاع الكرامة الوطنية، وانتزاع الأرض من براثن مغتصبيها.
إن ما تشهده الساحة الفلسطينية من تشتت وتفرقة وهمجية متزايدة من العدو الصهيوني، وضربه لكل القرارات الدولية بوجه الحائط، واستمراره ببناء المستوطنات في الضفة الغربية، مع قضم المزيد والمزيد من الأراضي، إضافةً إلى التغيرات الإقليمية والدولية وتأثيراتها على القضية الفلسطينية، وأهمها الانقسام الواضح للموقف العربي تجاه ملفات متعددة، منها الملف اليمني والسوري، وحتى سعي بعض الدول العربية للتطبيع مع العدو وما يعكسه من كسر للمبادئ القومية العربية، وتعزيز لمبدأ النأي بالنفس الذي يحول القضية الفلسطينية من قضية جامعة للقومية والشعوب العربية إلى قضية تخص الفلسطينيين وحدهم؛ مما يضعف الدعم المادي والعسكري، وحتى الإعلامي تجاه الفلسطينيين شعبًا وسلطة، وحتى منظمة.
في سبر جميع هذه المعطيات والتحديات تبرز لنا مجموعة من الأسس التي ينبغي أن تقوم عليها المرحلة القادمة للقضية الفلسطينية:
- التحرك نحو عقد لقاء حازم لرأب الصدع بين حركة حماس وفتح، وإنهاء الخلاف بشأن قطاع غزة وكل ما يخص القطاع من موظفين ودوائر وخدمات.
- بعد الاتفاق يحدد موعد لانتخابات تشريعية ورئاسية، تحدد نسب التمثيل لكل الفصائل دون استثناء، وتسمح لهم بالوقوف أمام أنفسهم بناء على نتائج الانتخابات، والتي ستكون صادمة للكثير بعد هذه الفترة الطويلة من الانقسام في الشارع الفلسطيني.
- السعي لبلورة موقف عربي واضح المعالم تجاه القضية الفلسطينية بجميع ملفاتها؛ لمعرفة الطريقة التي ستبنى عليها الإستراتيجية الوطنية الفلسطينية وعلاقتها مع محيطها الإقليمي.
- القيام بانتخابات المجلس الوطني، ومن ثم إصدار ميثاق وطني فلسطيني جديد يأخذ المستجدات المحدثة في القضية الفلسطينية، وعلى رأسها اتفاق أوسلو وعبثية المفاوضات مع العدو الصهيوني، وتحديد الثوابت الوطنية والأطر القابلة للتفاوض مع العدو الصهيوني، إن وجدت.
- التوجه نحو بناء المواطن الفلسطيني على أسس قومية أولاً، بغض النظر عن الانتماءات الحزبية وما يخصها من امتيازات بفصيل عن آخر للتعلم من تجارب السابقة، وما كان لها من أثر واضح في ترسيخ الانقسام الفلسطيني.
إن هذه النقاط، وإن كانت مكررة وقد تكلم بها المئات أو حتى الآلاف، إلا أنها تبقى هي الدائرة التي ندور في فلكها على أمل أن يتحقق للشهداء حلم بإحياء وطن يجمعهم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست