لم يستحوا من رجل تستحي منه الملائكة! حاصروا دار عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين، وطالبوه بأن يخلع نفسه وإلا قتلوه.
كان رضي الله عنه يقول لهم: يا قوم لا تقتلوني فإني وَالٍ وأخٌ مسلم، فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت أصبت أو أخطأت. وكان ينشدهم الله أن يقولوا الحق في ولايته عليهم؛ هل أخذها بالسيف والغلبة أم استحقها بمشورة المسلمين؟
قالوا: لسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نَخْلُصَ إليك.
فقال لهم: أَمَّا أن أَتَبَرَّأَ من خلافة الله فالقتل أحب إليَّ من ذلك، وأَمَّا قولكم تقاتلون من منعني، فإني لا آمر أحدًا بقتالكم، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فَقَدِمُوا عَلَيَّ أو لَحِقت ببعض أطرافي.
رفض عثمان رضي الله عنه خلع نفسه وكررها لهم (لا أَخْلَعُ سِرْبَالًا سَرْبَلَنِيهِ الله، ولا أَخْلَعُ قَمِيصًا كَسَانِيهِ الله)، يشير بهذا إلى ما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إن وَلَّاكَ الله هذا الأمر يومًا فأرادك المنافقون أن تَخْلَعَ قميصك الذي قَمَّصَكَ الله فلا تخلعه».
أشار عليه المغيرة بن الأخنس رضي الله عنه بأن يخلع نفسه لِيَعصِمَ دمه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال لي عثمان وهو محصور في الدار: ما ترى فيما أشار به عَلَيَّ المغيرة بن الأخنس؟ قلتُ: ما أشار به عليك؟ قال: إن هؤلاء القوم يريدون خلعي، فإن خَلَعْتُ تركوني وإن لم أَخْلَعْ قتلوني. قلتُ: أرأيت إن خَلَعْتَ تُتْرَك مخلدًا في الدنيا؟ قال: لا، قلتُ: فهل يملكون الجنة والنار؟ قال: لا، قلتُ: أرأيت إن لم تَخْلَعْ هل يزيدون على قتلك؟ قال: لا، قلتُ: فلا أرى أن تَسُنَّ هذه السُّنَّةَ في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصًا قَمَّصَكَهُ الله.
ولما رأى عثمان رضي الله عنه أن محاولات صرفهم لم تفد؛ شاور عبد الله بن سلام رضي الله عنه في الأمر، فأشار عليه بأن يكف عن قتالهم ليكون ذلك أبلغ له في الحجة أمام الله.
وجاء زيد بن ثابت إلى عثمان رضي الله عنهما، فقال له: إن الأنصار بالباب يقولون إن شئت كنا أنصارًا لله مرتين، فقال له: أما القتل فلا، أنا أَكِلُهُمْ إلى الله ولا أقاتلهم؛ فإن ذلك أعظم لحجتي عليهم. وطلب منه أبو هريرة رضي الله عنه الإذن بقتالهم، فقال له: يا أبا هريرة أَيَسُرُّك أن تقتل الناس جميعًا وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلًا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا، فرجع أبو هريرة ولم يقاتل.
وأقبل عثمان رضي الله عنه ينادي في أصحابه الذين انتفضوا للذَّبِّ عنه والذود عن مقامه: «أعظمكم عني غناءً رجل كَفَّ يده وسلاحه». فلقد اختار رضي الله عنه أهون الشرين، وآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين.
وبعد حوار طويل رد فيه ذو النورين على الخارجين عليه وأبطل حججهم التي عابوه بها، أخذ يُذَكِّرهم بفضائله ومناقبه في الإسلام، وأنه من جهز جيش العسرة والناس يومئذ معسرون، وأنه من ابتاع بِئْر رومة من ماله وجعلها سقاية للمسلمين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسْكُنْ حِرَاء فما عليك إلا نبي أو صِدِّيقٌ أو شهيد»، وعليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم أجمعين.
ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه ليس بنبي، وأن الصِدِّيقَ هو أبو بكر رضي الله عنه لاشتهاره بها، فلم يبق لعثمان ومن معه من الصحابة إلا الصفة الثالثة وهي الشهادة، أراد أن يذكرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشره بها وبحسن خاتمته؛ فلعل في تذكيرهم بهذا صرفهم عن مقصدهم ونجاة لهم من قتله؛ لو كانوا يعقلون!
ومع كل هذا أصروا على محاصرة بيته، ومنعوا عنه الماء والطعام، فجاءهم عَليّ رضي الله عنه، فقال: إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فإن الروم لَتَأْسِر فَتُطعِم وتَسقي، قالوا: لا والله لا نتركه يأكل أو يشرب.
ولم تهدأ هذه العصابة المارقة حتى أحرقوا باب داره وتسوروا بيته ودخلوا عليه لمساومته أمام سيوفهم الهائجة، طالبه أحدهم بأن يخلع نفسه ليتركوه، فلم تلن قناته ولم تهن عزيمته أمام الموت، بل أعادها على أسماعهم مع أنفاسه الأخيرة: «لست خالعًا قَميصًا كَسَانِيهِ الله عز وجل، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء». فأهوى عليه أحد البغاة بالسيف ليقتله، فاتقاه عثمان رضي الله عنه بيده فقُطِعَت، فقال رضي الله عنه: أما والله إنها لأول كف خَطَّت المُفَصَّل، فقد كان رضي الله عنه من أوائل كتاب الوحي، ولاحقوه بضربات أخرى حتى قُتِلَ رضي الله عنه والمصحف بين يديه، فوقعت قطرات من دمه الطاهرة على قوله تعالى: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [ البقرة: من الآية137 ]، فوثبت امرأته وألقت بنفسها عليه لتقيه الضربات، فتعمدها أحدهم فقطع أصابع يدها.
لقد مثَّلَتْ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم التفريط في مبدأ الشرعية أحد الجوانب المهمة في إدارة الدولة وفي العلاقة بين الراعي والرعية، فإن الاستجابة لمطالب الخارجين عليها لها عواقبها الوخيمة على حاضر الأمة ومستقبلها.
وأضاف تعليل فقيه الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (فلا أرى أن تَسُنَّ هذه السُّنَّةَ في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه )؛ أنها ليست خاصة بعثمان رضي الله عنه، بل هي عامة لأمة الإسلام إلى قيام الساعة.
ورغم أن الخليفة عثمان رضي الله عنه كان يعلم بمآلات تمسكه بالشرعية ورفض الاستسلام لهذه الفئة الباغية، إلا أنه قدم مصلحة الأمة على مصلحته الشخصية، ودفع حياته ثمنًا للمحافظة عليها والدفاع عنها، وهذا لا يقدر عليه إلا أولي العزم وأصحاب الرسالات وأنصار المبادئ.
لقي ذو النورين ربه بعد أن ضرب أروع الأمثلة في الثبات على الحق، والحرص على حقن دماء المسلمين، والدفاع عن شرعية الحاكم التي تمثل إرادة الأمة، وأبى أن يتنحى عن حكمه حتى لا تكون سنة من بعده يتوكأ عليها الطغاة والبغاة والسفلة والغوغاء؛ كلما انقلبوا على رئيسهم الشرعي قالوا له اخلع نفسك كما فعل عثمان.
وتدور الأيام، وتتوالى جولات الصراع بين الحق والباطل، وتحتاج الأمة من حين لآخر إلى من يعيد ذاكرتها، ويشعل سراج صحوتها، ويُحيي مبادئها وقيمها، ويُجلِي لها معالم طريقها.
ليأتي الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، ويمضي على خُطَى الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويأبى أن يفرط في شرعيته رغم الضغوط التي تعرض لها منذ اليوم الأول من ولايته وحتى رحيله.
كانوا يتهكمون علي كلامه ويتطاولون على مقامه كلما ذكَّرَهم بالشرعية، لم يدرك هؤلاء أنه كان يحدثهم عن شرعية إرادتهم، وعن ثورتهم وحرياتهم وحقوقهم، وفرصة التغيير والرقي التي أضاعوها بأيديهم.
لقد استرخص حياته لتحي بلاده حرة عزيزة، ورفض الاستسلام لمن سلبوا إرادة شعبها وقتلوا حلمها وتكالبوا على إحراق ربيعها وطوق نجاتها، تَحَمَّلَ سجنًا انفراديًا لست سنوات متصلة، وضعوه عمدًا في قفص زجاجي حتى لا يخرج صوته للناس وتُحْبَس معه كلماته ونداءاته فيهم، مُنِعَ من رؤية أهله وأسرته، وحُرِمَ من علاج الأمراض التي حاصرته حتى لقي ربه.
وباستشهاده – بإذنه تعالى – على هذا النحو، فقد ارتقت مكانته من رئيس مظلوم إلى زعيم تاريخي مُلهِم، قدم حياته دفاعًا عن شرعيته التي مثلت إرادة الأمة، وثَبُتَ شامخًا على مبادئه حتى الرمق الأخير، ليصبح رمزًا لأحرار العالم، وأيقونة لمن لا يقبلون الضَّيْمَ، ولا ينزلون على رأي الفسدة، ولا يعطون الدنية من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم.
استشهد عثمان رضي الله عنه، ولم يتمكن من حمل جنازته ودفنه ليلاً سوى أربعة من أصحابه على أصح الأقوال، وشاء الله أن يموت الرئيس محمد مرسي على ما مات عليه ذو النورين، وأن تكون جنازته كجنازته، قُبِرَ ليلاً تحت حراسة مشددة، ولم يُسمح لأحد بحمل جنازته والصلاة عليه سوى أفراد أسرته. لم يُنقص هذا من قدر ومنزلة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا من مكانة الرئيس محمد مرسي، ولم يرفع هذا من وضاعة البغاة الظالمين.
وهكذا ينتفض للشرعية رجال في كل زمان، يُذَكّرون الناس بها ويُجددون معانيها، يتعهدونها بإيمانهم وعزائمهم، ويبذلون أرواحهم حفاظًا عليها ودفاعًا عنها، جيل بعد جيل وخلف عن سلف، ليبقى دائمًا مبدأ الشرعية قيمة حية في عقل وضمير الأمة، يُزْكِيهَا الشهداء بأرواحهم ودمائهم وتضحياتهم؛ حسبة لله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست