كيف تتحكم السلطة في الأفراد عن طريق الخوف؟

كل من قرأ التاريخ يعرف جيدًا مسرور السياف، ذلك الجلاد المرعب الذي ارتبط بالعهد العباسي، فقصص بطشه وجبروته لا يمكن حصرها أو عدها، وقائمة ضحاياها كثر شملت العوام والنخبة، ولم تسثن أحدًا، فقد كان يمثل اليد الباطشة للسلطة، والتي لا تعرف الرحمة والشفقة، وحينما كان يؤمر بعقاب العصاة وزجرهم فهو لم يكن يبدي أي تهاون في تلك التعليمات الموجهة له، ولم يكن يهمه أن يعارض الأوامر المقدمة له حتى وإن بدت ظالمة أو مبالغًا فيها، ولعل أبرز الشواهد على ذلك قوله لجعفر بن هارون الرشيد أبوك أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، حينما ثار عليه بعد إعدامه لمعلمه القاضي فضيل بن عمران الذي راح ضحية وشاية كاذبة.

ومسرور كان موظفًا رسميًا في البلاط العباسي، يدفع له من أموالها ويقتات من فضلها نظير عمله كسياف، ولا شك أنه كان حريصًا على وضعه الاعتباري، ولهذا فقد كان سيفه مشهرًا على الدوام، وجاهزًا لفصل الرؤوس عن الأجساد بأبشع الطرق، وقد رافقت تلك المشاهد الدموية إصرار على حضور الجماهير، لأن الغاية ليست معاقبة الجاني فقط، وإنما التحكم في عقول الأفراد وغرس ثقافة الخوف في لاوعيهم الجماعي.

ونحن هنا لا نستدعي سيرته لشخصه فهو بعيد عن زماننا ولا تربطنا به ضغائن، وإنما غرضنا هو فهم ظاهرة القمع التي يمثلها في تراثنا الإسلامي، فالتجربة القمعية لا تزال كما هي بنفس خطورتها وبنفس غاياتها، وما استدعاؤنا لشخصه إلا لكونه أيقونة في تاريخنا لصناعة الخوف، ولأن آفة حضارتنا الاستبداد، فما هذه الورقة إلا محاولة لفهم نمط من التحكم في الجماهيرما تزال الدولة العربية الحديثة تعيد رسمه كمشهد عام يميز طريقة تعاملها مع أفراد شعبها، وإن بطرق وأساليب حديثة.

فلكل زمن مسرور السياف الخاص به، وحيثما وجد تمثلت آلة الترهيب والقمع، وطبعًا ليس بنفس الوسائل فهو الآن يتخذ أشكالا مختلفة، والسؤال الأساس هو كيف تتحكم الدول الحديثة في مواطينها، وللإجابة عن هذا السؤال سنستعين بمنهج الفيلسوف الفرنسي فوكوفي كتابه الشهير المراقبة والعقاب، إذ يرى بأن الدولة الحديثة قد تحولت من فرض سلطتها جسديًّا إلى فرضها نفسيًّا، وتتجلى في المنظومة البوليسية الرهيبة التي تتشابه فيها كل بلدان العرب شرقًا وغربًا، وحينما نقول المنظومة البوليسية فالمقصود بها ليس ذلك الجهاز القمعي الذي تستند إليه الدولة الحديثة للقيام بإحدى وظائفها الأساسية، أي العناية بحفظ الأمن العام وتطبيق مقتضيات القانون، وإنما نعني به إطارًا أوسع يشمل نمطًا من الحكم يقوم على التسلط، واحتكار جهة معينة (فرد أو عائلة أو طائفة أو طبقة) للسلطة والثروة، والحقيقة أن البناء الطبقي للدولة يجعلها موجودة أصلا لحماية مصالح الجهة المهيمنة بالدرجة الأولى لا أن تسخر لخدمة الجميع، وبالتالي في ظل هكذا الوضع تصبح العلاقة بين الطرفين بمثابة صراع مستمر بين أقلية متنفذة وأغلبية مقموعة، ولا يمكن معه إيجاد حلول توافقية تشمل مصالح الكل.

وفي ظل هذا الصراع، فالأقلية المهيمنة سعيًا لإعادة إنتاج تلك الأوضاع التي تكفل لها ديمومة النفوذ، والتحكم في موازين القوة من خلال منع ظهور أي قوة أخرى منافسة له، فإنها تستعين بكل الأدوات التي تحتكرها لتحقيق هذا الهدف، وبما أن موضوعنا الأساسي هو صناعة الخوف، فسنسهب في استعراض بعض مظاهرها ما أمكن، وهي في الواقع خليط بين العنف ووسائل القمع الرمزي أو الناعم ممثلة في الإعلام والقضاء ، ويتم وفق إطار قانوني يوحي بالحداثة السياسية، ولكنه في العمق ليس إلا مظهرًا شكليًّا.

وأجهزة القمع الرمزي المذكورة هذه من إعلام وقضاء في غالب الأحيان لا تقل ولاءً للسلطة، بل إن بعض أفرادها يفوقون في حماسهم لتمكين التسلط حتى أفراد الأجهزة الأمنية أنفسهم، ويمكن أن نفهم دوافعهم من منطلق أنهم ينتمون لشرائح عليا في الطبقة المتوسطة، وهؤلاء تحركهم الانتهازية، وما تمقلهم إلا بغاية تحسين وضعهم الاجتماعي وحماية الامتيازات المادية التي يحصلون عليها مقابل خدماتهم، وبحكم قربهم من تلك الأقلية المتحكمة فإنهم يحصلون على مبتغاهم بسهولة.

ولفهم هذه المنظومة القائمة، سنعرض بعض السلوكات التي توضحها بشكل جلي، من صميم ما نراه في أغلب البلدان العربية من توحش المنظومة الأمنية أثناء قمع الأشكال الاحتجاجية، والتضييق على المجتمع المدني سواء منظمات أو أحزابا أو نقابات، والتوجس منها في حال امتلكت هامشًا من استقلالية قرارها، وبما أنها في الأصل وجدت لتمثل وتدافع عن شرائح اجتماعية واسعة من الطبقات الدنيا، فإن ذلك يجعلها في مواجهة مع من أسميناهم بالطبقات العليا المهيمنة على الدولة، وإذا ما فشلت هذه الأخيرة في تطويعها وجرها لصفها، فإنها تلجأ لوسائل أخرى، بهدف تصفية قادة القوى المدنية المعارضة معنويًا بتلفيق تهم جاهزة من قبيل التآمر على النظام العام أو التخابر مع هيئات خارجية، أو منع تمويل أنشطتها بقطع مصادرها الرسمية.

كما تستعين بأجهزتها القمعية الناعمة الذين تحدثنا عنهم سلفا، من إعلام في معظمه غير مستقل، تستغله السلطة للتعبير عن توجهاتها حصرا، وفرض رأي وصوت واحد غير قابل للنقاش، والإعلامي كما الأمني هو أداة للبطش، ودوره أخطر فهو من يضطلع بمهمة التشهير والنيل من الأعراض وتوجيه الرأي العام ليقبل بدون نقاش توجهات السلطة، وتخويفه من مصير الخروج عن خط الطاعة، فليس هناك هامش للحرية إلا وفق ما تسمح به.

وكذلك يأتي جهاز القضاء ليكمل باقي المهمة، عبر فرض أحكام متشددة بناء على نصوص قانونية قابلة للتأويل والتحوير لتحتمل منطوقًا آخر، فتحت مبرر النظام العام ينكل بالناشطين الحقوقيين، وبذريعة حالة الطوارئ تمنع الحريات العام، مما يحوله من جهاز المفروض فيه أن يمنع تسلط الدولة إلى مجرد ملحقة أمنية لا أقل ولا أكثر وأداة للردع قادرة على إخضاع الجماهير وتخويفها من أن كل خروج عن الوضع القائم سيتم التعامل معه بصرامة شديدة حتى يكون ببساطة عبرة للجميع، وكل ذلك باسم القانون والمصلحة العامة.

وفي المحصلة إن هذا النمط السلطوي يقود لخلق مناخ قهري، يمكن من ترويض الجماهير وإخضاعها، ويدفعها نحو ضبط سلوكاتها وأفكارها وقناعاتها، لتستجيب لما تمليه رغبات وتوقعات السلطة كنوع من فروض الولاء والطاعة، وهذا هو أصل صناعة الخوف، فالغاية الأساس هي خلق فرد يشعر على الدوام بأنه مراقب على الدوام، وتنعكس بدورها على المجتمع برمته حيث يتحول إلى كيان مستلب يتلذذ باضطهاده ويخشى من تبعات الفكر الحر أو إبداء سلوك يعارض التوجهات العامة، ويجعله فاقدًا للثقة بنفسه أو إمكانية الخلاص.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد