في بداية تفشي جائحة كورونا شدد الكثير من الأطباء، لاسيما منظمة الصحة العالمية بتجنب الأماكن المغلقة للحد من انتشار الوباء، فكيف يصير الحال إن كان هذا المكان المغلق سجنًا، أو مكان احتجاز قاتمًا مؤصدًا بحديد وأسوار.
فما كان يخشاه الجميع وقع بالفعل، وأتى كورونا نزيلًا هو الآخر ليضاعف معاناة نزلاء السجون في مصر، فقد سجلت تقارير حالات إصابة، ووفيات بالوباء لم يغب عنها إهمال طبي من إدارة السجون، والتي لم تعبأ بكل الأصوات التي تعالت منادية بإطلاق سراح السجناء والموقوفين إطلاقًا ولو شرطيًا خوفًا من تفشي العدوي، وامتثالًا للدول الكثيرة التي أعلنت الإفراج عن آلاف من سجنائها في بداية الأزمة، قبل أن تتحول مراكز حبسهم لبؤر للفيروس وقاعدة انطلاق له تهدد عامة الشعب.
في شهر يونيو (حزيران) الجاري، بلغ عدد وفيات المحبوسين والمشتبه في إصابتهم بكورونا حتى كتابة هذا المقال سبع حالات، وفق إحصاءات التنسيقيات ومنظمات الحقوق والحريات.
فقد توفي يوم الأحد الماضي المواطن ناصر عبد العال 48 عام داخل سجن طره بالعاصمة القاهرة، إثر الاشتباه في إصابته بكورونا، وفي يوم واحد توفي سجينان، وهما أحمد عامر 51 عامًا بسجن طره أيضًا، وأحمد يوسف بقسم أول العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية يوم السبت الماضي، وقبلهم بيومين توفي المواطن معوض سليمان البالغ من العمر 65 عامًا بعد اشتباه في إصابته بالفيروس داخل قسم شرطة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية شمالي القاهرة، وهو نفس القسم الذي توفي فيه قبله بأيام المواطن حسن زيادة 54 عامًا بعد اشتباه أيضًا بالإصابة، فضلًا عن وفاة كل من المواطنين: ناصر عبد المقصود صاحب الـ55 عامًا في سجن طرة تحقيق، ورضا مسعود ذي الـ70 عامًا الذي توفي في سجن شبين الكوم بمحافظة المنوفية.
كل ذلك حدث وسط تعتيم رسمي وعدم الإفصاح عن الأسباب الحقيقية لوفاة كل من هؤلاء، وما اتخذته السلطات من إجراءات وقائية بعد ثبوت تفشي الفيروس في السجون ومقار الاحتجاز.
وفي وقت سابق وثق فريق حقوقي ظهور أعراض الإصابة بكورونا على أكثر من محتجز داخل قسمي احتجاز في سجن استقبال طره، فيما أعلنت منظمات حقوقية مطلع هذا الشهر قيام مصلحة السجون بالتفتيش على سجنين بمجمع سجون طرة بعد أسبوع من وفاة أحد موظفي سجن التحقيق، وتداول أنباء حول إصابة نحو 19 سجينًا بالفيروس حسب ما أكده عدد من الأهالي على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، وسط استمرار الصمت الرسمي أيضًا.
اليوم وبعد الأحداث التي شهدتها البلاد في الثالث من يوليو (تموز) عام 2013 توفي مئات السجناء بسبب الإهمال الطبي، ولا يخفي على أحد أن خطورة ذلك تتعاظم كارثيًا في ظل وباء كورونا الذي لم يميز بين سجين وسجان يؤدي عمله، ثم يعود لبلدته ويخالط أهله وذويه.
وطوال السنوات السبع الماضية يتوالى الحديث عن اكتظاظ السجون المصرية، والتي يستحيل في ظلها تطبيق أي إجراءات الوقاية من الوباء الذي يتفشي يومًا بعد يوم، فقد تصاعدت الشكوي عمومًا في مصر من الغموض وغياب الشفافية بشأن بيانات تفشي الوباء، وتوجيه انتقادات كثيرة لتعامل الحكومة معه، وفي أجواء كهذه تخشى جهات طبية وحقوقية عدة من أن تكون التجمعات البشرية، وتحديدًا أماكن الاحتجاز الثغرة الأضعف والفريسة الأسهل للجائحة القاتلة.
أين الخلل إذًا وما المشكلة؟
تكمن المشكلة الكبري في النهج الذي تتبعه الحكومة المصرية بالتعتيم على أنباء الوفيات والإصابة داخل السجون ومقرات الاحتجاز، بل أحيانًا كثيرة تنفي السلطات وجود إصابات داخل السجون من الأساس، وهذا الأمر بدا جليًا بعد وفاة الموظف المدني الذي كان يعمل بسجن تحقيق طرة، والذي توفي متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا، وبالرغم من اعتراف وزارة الداخلية في بيان رسمي لها بأن نتيجة التحليل ظهرت إيجابية بالفيرس لهذا الموظف، إلا انها في نهاية المطاف نفت أن تكون وفاته بكورونا، وقالت إنه لم يتم تحديد سبب الوفاة، وغالب الأحيان ما يُعلن في هذه الحالة أن سبب الوفاة التهاب رئوي حاد.
اللافت في الأمر تن هذا الموظف كان يعمل في مكان حساس داخل السجن، وهو «الكانتين»، حيث يقوم بتلقي الأموال من أهالي السجناء لتحويل هذه المخصصات المالية إلى «بونات» تُسلم لكل سجين داخل السجن بعد ذلك، أي أنه كان يتعامل مع شريحة واسعة؛ مما يهدد بانتشار المرض، ليس فقط داخل السجن، وإنما أيضًا خارج أسواره.
حالة الصمت هذه من مصلحة السجون والإنكار من وزارة الداخلية بشكل عام تشبه حالة الصمت التي كانت تمارسها وزارة الصحة المصرية في بداية التعامل مع فيروس كورونا في عموم البلاد، وأثبت بعد ذلك أن الفيروس موجود بالفعل، وأن معدلات من اُصيبوا به كبيرة وفي ازدياد.
والآن المنظمات الحقوقية تدق ناقوس الخطر بعدما صدر أكثر من تقرير حقوقي كان آخرها الذي أعلن يوم الخميس الحادي عشر من يونيو (حزيران) الجاري بتوقيع سبع منظمات حقوقية يطالب النيابة العامة ووزارة الداخلية بالكشف عن حقيقة أعداد وتحديد أماكن مصابي الفيروس داخل السجون، ويطالب أيضًا باتخاذ الإجراءات الاحترازية حيال السجناء، جاء ذلك بعدما أطلقت أكثر من نداء استغاثة يطالب بأولوية إطلاق سراح المعتقلين خاصة المحبوسين احتياطيًا، والذين يقدر عددهم بالآلاف بحسب تقرير «منظمة هيومن رايتس ووتش» الأخير بشأن المحتجزين في مصر طالما أنهم لم يحاكموا فليُطلق سراحهم، ويظلوا قيد التحقيق على ذمة هذه القضايا حتى يتم تخفيف التكدس داخل السجون.
والواضح للجميع بلا أدنى شك أن هناك تكدسًا حقيقيًا لا تنكره السلطات المصرية، بل إن عمليات القبض على أشخاص لم تزل مستمرة، فقد شملت أخيرًا أطباء اعترضوا على نقص معدات الوقاية، وأطباء كشفوا عن انتشار كبير للفيرس وأطباء أيضًا وجهوا استغاثات بضرورة توفير معدات الوقاية لهم في المستشفيات واعتُقلوا نتيجة لذلك، ووجهت لهم تهم، منها ترويج شائعات تضر بأمن الدولة، وتكدير السلم العام، كما حدث مع الطبيبة آلاء حميدة بمستشفي الشاطبي الجامعي بمدينة الإسكندرية، والتي لم تزل رهن الاحتجاز حتى كتابة هذا المقال.
تعريجًا على ما سبق، وفي ظل تفاقم هذه الأزمة لا يمكننا أن نتجاهل شهادات شهود العيان، وذوي المعتقلين، والمصادر، التي نقلت عنها هذه التقارير التي أفادت بثبوت إصابة بعض المحبوسين بكورونا داخل أماكن حبسهم.
ومما يدل على ضخامة الأعداد المتواجدة داخل أماكن الاحتجاز، كانت الرئاسة المصرية قد أصدرت عفوًا رئاسيًا لما يقارب 10 آلاف سجين بمناسبة عيد الفطر الماضي، ولكن لا يدري أحد هل هذه الأعداد قد أدت إلى انفراجة حقيقية داخل السجون أم لا؛ لأن مصر من الدول القليلة في منطقة الشرق الأوسط التي لا تصدر أي بيانات عن تعداد السجناء أو حتى الطاقة الاستيعابية للسجون، فإن الإفراج عن هذه الأعداد الأخيرة لا تعطينا تأكيدًا واضحًا هل إطلاق سراحهم ساعد في تطبيق حالة تباعد اجتماعي داخل السجون كما أوصت بها منظمة الصحة العالمية للحد من انتشار الفيرس أم لا؟
يتبقي لنا الآن بعض الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة: هل الحكومة المصرية لم تزل غير مدركة لحجم الكارثة داخل السجون اليوم؟ وهل إدارة السجون تدرك جيدًا أن الخطر اليوم لا يهدد المسجونين وحسب، بل من يسجنهم أيضًا، أم شغلتها عن هذه الجائحة أخرى هي الأكبر منها؟
أخيرًا: هل تستجيب الرئاسة لنداء المنظمات الحقوقية بإطلاق سراح المحبوسين ولو بشروط قبل تزايد أعداد الوفيات، أم ستتركهم في ظلمات ثلاث: «سجن، وعجز، وكورونا»؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
ظلمات