بناء على نصيحة أحد أساتذتي، سوف أناقش في هذا المقال أحد الفيديوهات التي نشرها عمال شركة سماد طلخا للأسمدة (المعتصمين حوال 32 يومًا للمطالبة بتطوير الشركة وعدم هدمها وتحويلها لكومباوند) رسالة الى من يهمه الأمر في 3 يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بغرض فتح نقاش حول أهم الافكار التي سيطرت على هتافات شريحة من العمال الصناعيين «أصحاب الياقات الزرقاء» ووعيهم، لعمل مقاربة أولية لمتوسط وعي العمال الصناعيين في هذا التوقيت، وهذا ليس على الإطلاق نقدًا لهؤلاء العمال أو تعاليًا عليهم بقدر ما هو محاولة للوقوف عند رؤيتهم للعالم من حولهم، وبالتالي كيفية التواصل معهم من قبلنا كطليعة. ومع تأملي للفيديو لاحظت ثلاث أفكار رئيسية
الفكرة الأولى: سيطرة الافكار البيروقراطية والنقابوية التي تفصل السياسي عن النقابي على وعي العمال
نجحت الدولة ومن خلفها أذرعها البيروقراطية النقابية بين العمال في الترويج لفصل النقابي عن السياسي، والترويج بين العمال لإزدراء السياسة، وعمق من هذا القبضة الأمنية التي يتعامل بها النظام مع السياسيين بالتوازي مع التشويه الإعلامي لهم، وكأن قضية غلق مصنع منتج وتشريد عماله ليست قضية تتعلق بسياسات الدولة العامة! فنجد في هتافاتهم تكرار أنه ليس لهم علاقة بالسياسة، وأن ما يهمهم هو أكل عيشهم فقط.
ربما هذا أيضًا بسبب المناخ العام المعادي للسياسة الذي تفرضه السلطة، وحالة الاستقطاب الحالية بين العسكر والإخوان، وكأن لا سياسة خارجهما.
ليس هذا فقط بل رفض العمال التظاهر خارج جدران المصنع، وتنصلوا من أصحاب هذه الدعوات، وكأن التظاهر خارج المصنع جريمة (هم في الوقت نفسه يبثون عبر السوشيال ميديا تظاهراتهم!).
ملاحظة مهمة هنا، وهي أنه هذا يعني وجود أقلية بين العمال تريد الخروج بالاحتجاج من أسوار المصنع وتسييس القضية.
كما أنه ربما نتيجة سيطرة الحديث عن الإرهاب في الإعلام، ومحاولة تجنب التهم الرسمية للمعارضة في مصر الآن، أكد العمال أن الاعتصام سلمي، وأنهم جزء من شعب مصر وليسوا خونة أو عملاء أو إرهابيين.
وكل هذا مؤشر على مستوى وعي العمال الذي ينفر من السياسة ولا يرى الأبعاد الكلية لقضيته، فيبتعد بها عن الاستقطاب الطبقي لصالح الارتماء في حضن الشعارات الوطنية الشعبوية (وهذه هزيمة لفكرة الصراع الطبقي والوعي الطبقي لصالح فكرة أن الكل واحد ولا تناقض في المصالح داخل المجتمع، وأن الخلاف ليس حول مصالح طبقية، واختزاله في مفهوم الفساد والفاسدين فقط). أمثلة:
– الاعتصام سلمي وإحنا العمال طالعين علشان أكل عيشنا ومصنعنا.
– إحنا شعب مصر.
– إحنا ما بنتكلمش في السياسة.
– إحنا مش إخوان.
– إحنا عمال مصر مش إرهابيين.
– إحنا مش عايزين حد يتاجر بقضيتنا في القنوات المشبوهة إياها.
– لقمة عيشنا.
– لا ننتمي لأي حزب أو جماعة.
– لن نخرج برا سور المصنع وكذب من أبلغ الأمن بكدا.
– مفيش حد هنا له عداء مع الأمن أو الدولة أو النظام أو السيسي.
الفكرة الثانية: موت أدوات الدولة التفاوضية وسيادة المنطق الأمني
كما لوحظ طول وقت التظاهرة سيادة نبرة استجداء السيسي والأجهزة الأمنية من جيش وشرطة وأمن وطني، سواء لإخراج زملائهم المعتقلين أو تنفيذ مطالبهم، كما لوحظ انعدام ثقة مفرط في باقي مؤسسات الدولة المدنية، وهذا ناتجمن التجارب السيئة معها، وربما أيضًا هذا ناتج من اكتشاف العمال طبيعة الدولة الحالية التي تقدم المنطق الأمني والمؤسسات الأمنية على كل مؤسسة أخرى، وبالتالي فلن يكون هناك قرار ذو تأثير وقابل للتنفيذ على الأرض إلا لو خرج من هذه المؤسسات الأمنية.
هنا يجب الإشارة الى أن الاستنجاد بالسيسي مرات عديدة هو أيضًا تعامل مع السيسي بمنطق صاحب العمل الذي يخدعه من هم أسفل منه من الموظفين، ولا ينقلون له معاناة العمال الحقيقية، وأن المشكلة ليست في السيسي ولكن في من حوله، وكأن السيسي لا يعرف ما يجري، وربما أيضًا هي محاولة من بعض العمال لاستجداء تعاطف السيسي واللعب على نفسيته لكسب تعاطفه مع قضيتهم.
كما جرى استدعاء الجيش وتفويضه في أحد الهتافات ليقف في وجه الرأسمالية، وهنا نجد صدى للخطاب الناصري مخلوطًا مع خطاب التفويض بعد 30 يونيو (حزيران) 2013.
كما وجدنا نداءات ضعيفة جدًّا للنواب والإعلاميين لتوصيل صوت العمال للأمن والرئيس، وهذه دلالة على قتل الأمن للسياسة والثقافة في مصر، وتحويلهما إلى مجرد «بوسطجي» في وعي العمال. أمثلة:
– رسالة للرئيس إحنا ماعدش عندنا ثقة في حد إلا في سيادتك ياريس ومنتظرين قرار من سيادتك.
– إحنا بنفوض الجيش المصري اللي حامينا عالحدود يتدخل في الشركة ويحمينا من (الرأسمالية).
– عمرنا ما هنعادي حد شرطة أو جيش دول مننا وإحنا منهم.
– إحنا ولادك يا ريس.
– يابو دبورة ونسر وكاب.. إحنا ولادك مش إرهاب.
– نناشد وزير الداخلية ورئيس مجلس الوزراء ومدير أمن الدقهلية والأمن الوطني الإفراج عن زمايلنا.
– لكل مسؤول أمن وصل لحضرتك إننا عايزين نخرج من سور المصنع فيه ناس بتقولكم كلام كدب.
– عملنا فيكو إيه؟! بتحبسونا ليه؟!
– عملنا فيكوا ايه؟! بتشردونا ليه ؟!
– عمال مصر يا ريس.
– يا سيسي عمالك ضحية .. سرقونا شلة حرامية.
– بالله عليكوا اعملوا مشاركة ووصلوا صوتنا للجهات الأمنية.. إحنا مش إرهابيين إحنا مش خونة إحنا ملناش علاقة بالسياسة.
– يا نواب الدقهلية صحوا الضماير شوية.
– لكل إعلامي كانت حتكون أن مفيش قرار رسمي اهو بقى فيه قرار رسمي.
– وصلوا صوتنا للرئيس.
الفكرة الثالثة: التأثر بهتافات يناير وفي الوقت نفسه وصم يناير بالفوضى
حيث وجدنا تأثرًا شديدًا من العمال بهتافات يناير ظهرت في الهتافات التي صاغوها، حيث كان أغلبها تعديلًا لهتافات يناير بما يفيد قضيتهم، وهذا يبين عمق أثر ثورة يناير في وعي العمال رغم هزيمتها، وفي الوقت نفسه وصم يناير ضمنًا بالتخريب والفوضى في سياق استجداء الأمن للإفراج عن العمال المعتقلين أو إبداء مرونة معهم أثناء التفاوض. أمثلة:
هتافات وصم الثورة:
– كلنا عارفين إن الأمن مضغوط علشان 25 يناير مضغوط.. إحنا لا ندخل السياسة المصنع ولن نسمح بأي تخريب داخل المصنع احترامًا لبلدي.
هتافات متأثرة بثورة يناير:
– يابو دورة ونسر وكاب.
– على جثتنا.. نسيب شركتنا.
– يا زمايلنا يا أهالينا ضموا علينا ضموا علينا.
– قول.. ما تخافش.
– آه يا وزارة ذل وعار.. العمال بتطق شرار.
– الاسم.. يليه هتاف جماعي «باطل».
– يسقط يسقط حكم
– يا … فينك فينك أرض الشركة بينا وبينك
الخلاصة في تقديري
أولًا لوحظ في هذا الفيديو حالة تناقض في وعي العمال، ناتج من سنوات من تجريف هذا الوعي وغياب القيادة الثورية أو حتي النقابية المنظمة ذات خبرة، ففي الوقت الذي يعتصم فيه العمال داخل الشركة ويحملون أكفانهم ويتظاهرون ضد قرار هدم الشركة في تحدٍ صارخ لسلطة رأس المال وسلطة الدولة، نجد تراجعًا شديدًا في الوعي الطبقى بين هؤلاء العمال وسيادة للمنطق الشعبوي حول الوطن والدولة، وأن الكل معًا حكامًا ومحكومين رجال أعمال وعمالًا، ولا يوجد أي تناقض جوهري في المصالح.
ثانيًا اختصار الأزمة في فساد أخلاقيات، أو فساد مالي وإداري أو أزمة ضمير، وغياب أي رؤية تدين المنظومة الرأسمالية والدولة المنحازة لرجال الأعمال عمومًا.
ثالثًا سيادة المنطق الأمني، وغياب باقي مؤسسات الدولة كأدوات تفاوضية فاعلة، وهو ما التقطه العمال بمخاطبتهم المؤسسات الأمنية ورأس النظام مباشرة.
رابعًا نجاح النظام وأجنحته البيروقراطية بين العمال في الترويج لانفصال السياسي عن النقابي والعمالي، وأن السياسة نجاسة.
خامسًا محاولة إعادة انتاج أن المشكلة ليست في الرئيس المشكلة في من حوله، ولكن بصيغة جديدة هذه المرة، وهي أن المشكلة ليست في الأجهزة الأمنية من جيش وشرطة وأمن وطني، المشكلة في كل ما هو مدني.
سادسًا لوحظ عمق تأثير ثورة يناير في وعي العمال رغم هزيمتها، وفي الوقت نفسه التباس حولها وتبني لرؤية الأمن حول ماهية الثورة بوصفها مظاهرات فوضوية وتخريب منشآت.
وأخيرًا فقد قدم الفيديو نموذجًا مثاليًّا لحال العمال في لحظات الهزيمة وصعود الثورات المضادة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست