لا شك أن في الوفرة المعلوماتية المعاصرة فوائد لا ينكرها أحد، بما تقدمه من فرصة ذهبية في مجالات عدة مثل التعلم وتنمية المهارات، لكن هدفنا في هذه المقالة إلقاء الضوء على التبعات السلبية للطوفان المعلوماتي الذي نعيشه، ذلك أنه من الحكمة أن أحدثك مثلًا عن أضرار السكّر، وليس عن مذاقه الحلو، لأنه معروف لديك، أما مضاره فقد يخفى بعضها عنك، وقد تتهاون أو تقلل من أهميتها.
وعليه يبقى السؤال الأهم في هذا السياق: ما هو الأثر الثقافي والفكري المترتب عن هذه الطوفان المعلوماتي على مجتمعاتنا؟
يجب الانتباه أولًا أنا لا نتكلم هنا عن أثر وسائل التواصل بذاتها، وإنما عن أثر وجود سيل جارف من المعلومات تُمثّل وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الأغزر له. وفي هذا السياق يهمنا التركيز على آثاره على طلبة العلم وعلى عامة الناس، ومن أهمها النقاط التالية:
١ – الخلط: في ظل هذا الانفجار المعلوماتي يختلط الغث بالسمين، والصحيح بالسقيم، والنافع بالضار، وتصبح التفرقة بين هذا وذاك في غاية الصعوبة. فكل واحد منا يتعرض يوميًّا لعدد كبير من الأفكار تكون نابعة من منطلقات مختلفة، ويواجه رؤى مبنية على منهجيات متناقضة، وقد يستطيع البعض التمييز بين جودة الأفكار أو خطورتها في بعض المسائل والأحداث الواضحة، باعتبار اقترابها أو بعدها عن قناعاته، ولكن قد لا يفلح في ذلك في أمور ومسائل أكثر تعقيدًا، وخاصة إن لم يكن له دراية ومعرفة سابقة بها. فينتج عن ذلك حطام وشتات من المعلومات في ذهنه لا يجمع بينها رابط، فتتكون بذلك بنية فوقية أو سقف معرفي هش قائم على أركان غير متجانسة سرعان ما ينهار عند أول نقاش أو نقد جاد. وعليه ليس من المستغرب مثلًا أن نرى بعض المتدينين يتبنون خليطًا من رؤى دينية وعلمانية في الوقت نفسه، وكذلك نلحظ تسارع عملية علمنة التدين يومًا بعد يوم.
٢ – التشتت: إن التضخم المعلوماتي لا يسبب التشتت بناء على الكم الهائل من المعلومات فحسب، ولكن التشتت مرتبط أيضًا بالوسائل ذاتها التي تحمل هذه المعلومات، فمثلا شركة غوغل التي توفر عددًا ضخمًا من الكتب، هل تشجع بالمحصلة على القراءة العميقة المتأنية، أم على القراءة الاجتزائية الانتقائية؟
ومن المشاكل التي تحدثها هذه الحالة بالمجمل هي الخلل في ترتيب الأولويات، والانصراف عن القضايا المهمة إلى قضايا دونها في الأهمية إن لم نقل تافهة، ومن صرف الاهتمام بالجوهر إلى الاهتمام بالوسائل والمظهر، ومن التركيز على ما ينبني عليه عمل إلى ما يكون معرفته أو جهله سواء، ومن محاولة الإبداع والتجديد إلى الإغراق في معالجة المعروف والمكرر.
إن مسألة التعاطي مع الأخبار والمستجدات تصلح كمثال على ذلك، حيث يصرف المشاهد أو القارئ الساعات الطوال في سماع الخبر وتحليله والمناقشة حوله وقراءة المقالات الطوال، وفي كثير من الأحيان لا يكون هناك طائل من وراء كل هذه التفاصيل، ويشغل بذلك عن أمور هي أولى وأهم، كما أنه بعد عدة أشهر لا يبقى في الذاكرة غالبا إلا الخبر المجرد، وقد ينسى الإنسان متى وقع وكيف وكذلك معظم التفاصيل المرافقة له.
ومن مظاهر التشتت أيضًا منافسة الأدعياء العلماء، وذلك راجع إلى طبيعة هذه الوسائل، فهي في النهاية ساحة تقدس المظاهر، وهي لا تهتم إلا بالوسائل لأنها مجرد وسائل: الصورة الجميلة، والكاميرا الحديثة، والمونتاج المتقن.. فغطى الأدعياء على العلماء، وتوسع الفراغ على حساب المضمون.
٣ – التسرع والملل: أصبحت السرعة سمة العصر في كثير من المجالات، وأخطر آثارها تظهر في مجال المعلومات والفكر والثقافة. ففي وسائل التواصل الاجتماعي لا يصبر معظم الناس على قراءة المنشورات الطويلة، ولا يعطون المنشور من وقتهم إلا ثوان قليلة ولو كان عميقًا ومفيدًا، وهذا السلوك أو لنقل هذه الثقافة كانت الدافع المناسب لنشوء وسائل جديدة تحدّ من المساحة المتاحة للمنشور مثل تويتر، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نشأت وسائل جديدة تسقط دور ثقافة الكلمة من عملية التواصل، وتجعل الصورة الوسيط الرئيسي في نشر الأفكار، ثم وصلنا بعد ذلك إلى تطبيقات تحول أجيال المستقبل إلى دمى مضحكة وبابغاوات مسلية، دون الحاجة إلى الفكرة أصلًا.
أما على الصعيد الأكاديمي، فقد أصبح التهاون في الرجوع إلى المراجع الأصلية وضعف الهمم وقلة الجلد في البحث العلمي من الأمور الواضحة التي لا تخفى. وفي دراسة أجرتها المكتبة البريطانية (Britisch Library) عام 2008 في موضوع القراءة الإلكترونية ركزت فيها على تحليل معطيات خمس سنوات لسلوكيات قراء الكتب الإلكترونية والمجلات البحثية عبر المكتبة البريطانية، توصلت إلى أن سلوك الطلاب متذبذب ويتميز بالانتقائية والقفز بين الكتب والأبحاث دون منهجية، وكانوا يمكثون بمعدل أربع دقائق في قراءة كتاب إلكتروني معين. والعجيب في ما توصلت إليه الدراسة أن حتى الأساتذة والمحاضرين والدكاترة لم يكونوا أكثر صبرًا من الطلاب، حيث وجدت أن حوالي 60 بالمئة منهم لا يقرأون أكثر من ثلاث صفحات من مجلة بحثية محكمة. تلخص الدراسة هذه الحالة بقولها: «بالمجمل ما يقومون به يشبه السباحة.. إنهم يبدون كأنهم يبحثون على الإنترنت لكي يتجنبوا القراءة».
٤ – الزهد في العلم: من المعروف في الاقتصاد حسب قانون العرض والطلب أن السلعة التي يزداد الطلب عليها يرتفع سعرها والعكس، وإن كان العلم ينتمي إلى عالم مختلف، فإن طبيعة الإنسان هكذا: فكل مفقود مطلوب، وكل نادر مرغوب، والإكثار يضعف التأثير، والمبالغة تضعف الفاعلية.
أما في الوسط الثقافي نجد في يومنا هذا معظم الكتّاب الحاليين تجمعهم ذات الشكاوي والهموم، ألا وهي قلة القراء، حيث يعزّ على كتّاب اليوم أن يجدوا من يقرأ لهم ويهتم بأفكارهم فضلا عن أن يراجعها وينقدها. ومن الطريف والمحزن في ذات الوقت أن يهدي بعض الكتاب كتبهم لأنفسهم تعبيرا منهم عن الاستياء من هذا الحال.
لقد أصبح مشهد صالات المؤتمرات والندوات الفكرية المليئة بالحاضرين والباحثين من ذكريات الماضي القريب، والمنظمون لتلك الفاعليات تواجههم اليوم صعوبات متصاعدة في تحقيق نجاحات كانت بالأمس ممكنة دون جهود جبارة وطرق إبداعية لا غنى عنها اليوم.
وكل هذا من نتائج الكثرة والتخمة المعلوماتية التي أدت إلى الزهد في العلم والعلماء، والخطب والخطباء، وجعل الإنسان المعاصر ينظر إلى الفانوس السحري الذي وقع بين يديه، ويمسح عليه وهم يقول في نفسه: «ما لي وما لشيخ القرية، العلم كله بين يدي، فلماذا أحرك رجلي، على الفانوس ومارده ألف تحية».
لكن يغيب عن باله أن المعلومات ليست هي العلم، فكومة الحجارة تحتاج إلى بنائين ومهندس وخطة محكمة لكي تصير بناء متناسقًا في شكله وصالحًا للسكن، وقاصر النظر يرى في كومة الحجارة هذه قصرًا بديعًا.
٥ – الاقتصار في طلب العلم على الوسائل الحديثة: لقد أصبحت المواقع الإلكترونية والمنصات البحثية ووسائل التواصل الحديثة هي الوسائط الرئيسية التي تنقل المعلومات، وهي الملجأ الأول للباحثين وحتى عند كثير من المتخصصين، ولا يخفى ما في ذلك من أثر سلبي على دور المراجع الأصيلة والكتب العميقة. صحيح أن كثيرًا من الكتب حُولت إلى الصيغة الإلكترونية، لكن المشكلة أنه أصبح يُتعامل معها حسب القوانين الإلكترونية كما أشارت دراسة المكتبة البريطانية، وهكذا تم إخراج هذه الكتب من عالم الأناة والصبر والتجلد إلى عالم السرعة والعجلة والسطحية.
والمفارقة أن هذه الوسائل هي ذاتها وسائط الترفيه والتسلية. وإذا أردنا أن نجري موازنة إجمالية لمواد الترفيه وكافة المواد التي تصرف الإنسان عن أي هدف جاد من ألعاب وأفلام ومواد إباحية ووضعناها في كفة، مقابل كفة العلوم والأبحاث والكتب والدراسات، وأخذنا عامل إقبال الناس على كل صنف، لوجدنا الكفة ترجح بشكل واضح إلى النوع الأول. وهذا شيء طبيعي اذا استحضرنا حقيقة أن هذه المواقع هي في نهاية الأمر شركات تجارية عملاقة تفوق ميزانيتها ميزانيات بعض الدول، ولكي تزداد الأمور وضوحًا علينا أن نسأل: أي النوعين يأتي بأرباح مالية أعلى لهذه الشركات؟ وأعتقد أن الجواب واضح لا يحتاج إلى تفكير.
٦ – السطحية وضحالة الفكر: إن الآثار السلبية التي ذكرناها إلى الآن هي التبعات الأولية الظاهرة، ولكنها ليست نهاية المطاف، بل تترتب عليها نتيجة هي أشد منها خطرًا، وهي السطحية وضحالة الفكر. وهذه نتيجة طبيعية للتشتت والخلط والتسرع، بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار تأثير الفيضان المعلوماتي في برمجة اللاوعي، وكذلك القراءة الأفقية المناقضة للقراءة العميقة المتأنية، والتذبب بين مصادر المعلومات. إن السطحية لا تعني عدم العمق في التفكير فحسب، ولكنها ترتبط علاوة على ذلك بهشاشة تصيب مهارات العقل الأساسية، مثل الحس النقدي والتأمل والتحليل والتدبر، فهذه الأمور تشكل جهدا داخليا لاكتشاف الحقائق وفهم الواقع، وتخلق مجالا جوهريا يشكل الركن الأساسي في تفاعل الذات مع المحيط المعرفي والثقافي.
ونتيجة كل ما سبق ينشأ المواطن الساذج، الذي يفقد المقومات العقلية المركزية المؤسسة للوعي والحس النقدي، فيسهل توجيهه وترشيد سلوكه وفرض الأنماط التفكيرية وأساليب الحياة عليه دون مقاومة تذكر، وكم يحتاج هذا النوع من الناس من جهود لإصلاح التشوه الفكري الحاصل عنده وتوعيته للخروج من هذا المأزق. وهكذا تصبح هذه الحالة مظهرًا عامًا في المجتمع، فيسهل التلاعب به وخداعه، وتخترقه الإشاعات، وتحكمه الروايات الحكومية وبعض الأساطير الدينية التخديرية.
وكذلك الأمر بالنسبة لطلبة العلم الذين يواجهون في ظل هذا الانفجار المعلوماتي صعوبة في بناء المنهج العلمي والقدرة على التحليل والربط بين المعلومات. وقد لاحظ بعض المفكرين تأثير كثرة المقولات والروايات والآراء على الإبداع والقدرة على الابتكار. لذلك من الأفضل في نظري أن يكتب الإنسان أفكاره وتأملاته حول قضية معينة قبل الغوص في البحث، لأن ما سيقرأه لاحقا سيؤطّر تفكيره ويفرض إملاءاته عليه، والأغلبية الساحقة من الباحثين لن تستطيع الفكاك منه والخروج عليه بعد ذلك.
هذه طائفة من المآلات التي نلحظها ونشاهدها في المجال الثقافي والعلمي، ولكن هناك تداعيات أخرى في غيرها من المجالات مثل: تضاؤل دور القدوة وإهمال دور المعايشة في المجال التربوي، وترك العمل في مجال الدعوة والإصلاح لوهم التأثير وكثرة الأتباع والمشاهدات وغيرها.
خاتمة
كما أن الاستهلاك المادي دون ضوابط يورث ضعف الجسم وتكالب الأمراض عليه، فإن الاستهلاك المعلوماتي دون منهجية يورث ضعف المنطق وضحالة التفكير، فالمشترك بينهما استهلاك دون وعي وانغماس في الرغبات دون ضوابط أو تخطيط.
إن الإسراف في كل من الاستهلاك المعلوماتي والاستهلاك المادي وجهان لعملة واحدة، إذ إن كل منهما أدوات في يد العولمة وما بعد الحداثة، حيث الغاية تسطيح الإنسان وتشييئه وترشيد سلوكه والتحكم بتفكيره والتجارة بمشاعره وشيعان خصوصيته وضرب القيم والأخلاق وتكريس الفردانية وعبادة الجسد والأهواء والمتع، كل منهما حد لسيف واحد آخذ في تقطيع أواصر الإنسانية والعلاقات الاجتماعية حتى صرنا أكثر الأجيال أنانية وجهلًا بأنفسنا وتقوقعًا حول ذواتنا وانعزالًا عن الحياة.
في المقابل إنه لمن السذاجة وعدم الإنصاف أن ننكر الخدمات الجليلة والفوائد العظيمة للوفرة المعلوماتية الحاصلة، سواء بالنسبة للعامة أو للمثقفين والأكاديميين. كما أنه من الخِفة وعدم الواقعية المناداة باعتزال الوسائل الحديثة أو الحالة بشكل عام، ولكن المطلوب كي تحصل الاستفادة وتُتجنب الآثار السلبية التعامل مع هذا السيل الجارف بوعي وعلى بصيرة وبكثير من الانضباط ومراقبة النفس ومقاومتها والحرص على عدم الانجراف وتطوير الآليات المناسبة لذلك، فلا يصير الإنسان بهذا قشة في مهب الريح، أو كرة تركلها أقدام اللاعبين.
كما أنه ليس المطلوب من المنتجين للمعلومات إخلاء الساحة لصنّاع الفراغ والمحتوى التافه، ولكن هي معركة فرضت على أصحاب الرسالة والقيم والمبادئ يجب أن تُخاض بوعي وعلم ودراية، إذ إن المصلح هو ابن عصره، يتقن أدواته ولا يقصّر أبدًا في الاستجابة الخلاقة والتفاعل البناء مع تحديات واقعه.
وأخيرًا فلعل التحول الكبير الذي ما زلنا لم ندرك كامل أبعاده بعد، والذي يرسم واقعنا ويرجّح أن يحدد طبيعة مستقبلنا هو التطور الحاصل في مجال المعلومات، والتحدي الكبير الذي يواجهنا هو في كيفية تفاعل الإنسان معه، ومدى قدرته على التحكم بهذا الوضع المستجد أو فشله في ذلك، ومن ثم إضافة هزيمة جديدة في سجل الهزائم الإنسانية المتلاحقة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست