هل غضبتم من العنوان! ليس العنوان هو المغضب، بل الفعل نفسه؛ فالفضول والتلامس غير المرغوب، والتعدي لفظيًّا أو باللمس، أو التنمر أو افتعال المشكلات على المستوى العائلي أو المهني أو في المدرسة أو حتى في الشارع، أو انتقاد الآخرين باستفزاز سواء كان ذلك شخصيًّا أو على مواقع التواصل الاجتماعي، أو الردود الاستفزازية على بعض التعليقات على منشورات على مواقع التواصل، أو تقصد أحدهم البحث عن فئة معينة من الناس وكتابة ردود على تعليقاتها على مواقع التواصل، كل ذلك لا يعدو عن كونه «تحرشًا»، فالتحرش بالأصل هو اقتحام خصوصية الآخر واستفزازه، والتحرش ليس محصورًا بالتحرش الجنسي فقط، لكنه التعدي على حرية الآخر وخطوطه الحمراء بشكل عام. وقد وجدت أهمية التطرق لطرح هذه الظاهرة لكثرة انتشارها بطرق ومواقف مختلفة وتحت مسميات مختلفة، لكنها لا تعدو عن كونها «تحرشًا» أولًا وأخيرًا. بالإضافة لتلسيط الضوء على كوننا مجتمعات بشرية لا تستطيع العيش بهدوء، حيث يجب افتعال المشكلات من لا شيء.
وأما التحرش الأكثر انتشارًا نجده في أماكن العمل، حيث يلاحق الموظفون الموظف الجديد الطيب المسكين فيوقعونه كل يوم في مشكلة حتى يضطر لترك العمل لعدم احتماله كمية المشكلات، أو لعدم موافقته للانضمام لهم في تصرفاتهم ومؤامراتهم غير القانونية.
أعرف إحداهن بدأت العمل في إحدى الشركات، وبالرغم من كون الشركة كبيرة وذات فروع فإن المكتب الذي عملت فيه لم يكن فيه سوى أربعة موظفين وهي الخامسة، ولكن دوافع التحرش العدائية تنبهت لدى الجميع ليضعوها في تفكيرهم ويبذلوا كل ما بوسعهم لجعلها تترك العمل، خاصة بعد إظهار نجاحها وتميزها في العمل، فبدأ كل منهم الذم في الآخر خلف ظهره ومحاولة إيجاد أي كلمة رديئة لإيصالها، وعندما لم يجدوا، اتبعوا أسلوبًا هجوميًّا غير مسبوق يغلب عليه التعدي اللفظي والمعنوي بمناسبة وبدون مناسبة، وكان المذهل في الأمر أنه لم يوقفهم أحد برغم مشكلاتهم الكثيرة في العمل.
أما التحرش المتداول فهو التحرش بين الجيران الذي يحتل المرتبة الأولى في الانتشار بين الناس لسبب مجهول؛ فتجد الجار يرمي الأوساخ على جيرانه الأسفل منه، وقد يصل الأمر لرمي أشياء ثقيلة ومؤذية، وحين المواجهة يتم الإنكار بأن تلك الأشياء من عندهم!
أو أنه يفتعل الأصوات ليلًا ونهارًا ليزعجهم ويخرجهم عن طورهم، أو تجده يسرق ماء الخزان من جاره. حتى إننا نجد البعض كلما رأوا أناسًا يدخلون لشقة جيرانهم فإنهم يلاحقون الأمر حتى يعرفوا الأسماء ودرجة القرابة وسبب الزيارة. ولا ننسى افتعال الخدوش في سيارات الجيران أو الجلوس عليها تقصدًا. أعرف إحداهن قد أتت إليها جارتها خصيصًا لتسألها إن كانت ستترك بيتها وترحل بعد وفاة زوجها بدلًا تقديم التعازي!
ودعوني لا أنسى إخباركم عن تلك التي عاشت طوال عمرها في بلد غير موطنها، ثم تزوجت رجلًا من موطنها لتتغير الأحوال ويضطرون للرحيل عن تلك البلاد عائدين إلى أرض الوطن بعد أن باعوا وخسروا ممتلكاتهم، وخسرت هي وظيفتها وممتلكاتها وصديقاتها وحياتها التي أمضتها في تلك البلاد، لتجد القهر والاستفزاز من الأقارب في الموطن لتلك الغريبة التي تركت كل شيء ولحقت بزوجها بدلًا من احتوائها.
ألم يخامركم حتى الآن الاندهاش والسؤال عن أسباب كل ذلك؟ دعوني أكمل لكم عن أنماط التحرش، والتي يبرز فيها حاليًا التحرش بالأطفال – كما قلت، الأمر غير محصور فقط بالتحرش
الجنسي.
منذ أيام ذهبت أنا وابنتي إلى أحد الأماكن العامة لإنهاء بعض المعاملات، وكان الدور طويلًا جدًّا، فما كان منها إلا أن تململت كثيرًا ثم جلست تطلب الهاتف المحمول لتمضي بعض الوقت باللعب، فما كان مني إلا أن أعطيتها، فبدأت بتلوين الرسوم وتصميم كعكة كبيرة، ثم طلبت رأيي بما فعلت، فقلت لها إنها فعلت شيئًا جميلًا وطلبت منها أن تكمل ما تفعله، ثم التفت مرة أخرى أنظر إلى عداد الدور آملة بتحركه، فوجدت من جلست إلى جانبي تتدخل وتكلم ابنتي وتخبرها بأنها فعلت شيئًا جميلًا، وأنه جميل لأنه من صنعها، فما كان مني إلا أن ابتسمت لها بهدوء رغم تعاملها مع ابنتي وكأني غير موجودة، ورغم عدم ميل ابنتي لمبادلتها الحديث. ثم وجدتها فجأة تقول لي: هي تحب الرسم.. اجلبي لها الألوان والأوراق، رفعت حاجبي باندهاش منها، وأخبرتها بأن ابنتي تمتلك كل ذلك. فصمتت على مضض وقد كانت تريد الحديث والانتقاد أكثر.
وفي مواقف أخرى مشابهة، حيثما أذهب أجد العاملين يلاطفون ابنتي وهي لا تريد ذلك. ولكنهم يستمرون، بل قد يتعدى الأمر إلى طبطبة على رأسها أو إمساك وجهها أو قرصها من خدها، فتأتي وتسألني باستغراب ورفض: لقد لمسني، لقد وضع يده على رأسي، فأخبرها بأنني معها ولم يحدث شيء، وإن كان الأمر قد ضايقها فعليها أن تخبره ألا يلمسها.
ستقولون إن الأمر عادي، وإنها طفلة، وإنني أضخم الأمور. فكروا معي، بالطبع أنا لو رأيت طفلًا جميلًا فسأحب أن ألاطفه، لكني لن أصر على ذلك متجاهلة وجود عائلته التي قد لا تحبذ أن يقترب أحد من طفلها، كما أني لن أحاول اقتحام جسده بيدي لألامسه حتى لو ملامسة بريئة، فصدقوا أو لا تصدقوا، هو شخص مثلي ومثلكم، له الحق بأن لا يقتحم أحد خصوصيته. تخيل أن هناك من وجدك شخصًا جميلًا أو محبوبًا فمد يده ليقرصك من خدك، أو ليلامس شعرك، سواء في الشارع أو في مطعم أو في مكان عام، فماذا ستعتقد حينها؟ هل ستحب ذلك؟ تخيل موقفًا أكثر واقعية يحدث مع الأطفال، بأنك تمشي به في الطريق لتجد فتاة تمشي وصديقتها خلفك تعاكسان طفلك لفترة طويلة. أليست تلك ملاحقة؟ ثم تأتيهن الجرأة بأن يلامسا وجه طفلك دون إذن منك أو منه؟ طبعًا لا نريد أن ننسى حق الطفل بأن يبقى آمنًا وبعيدًا عن مصادر العدوى في ظل عصر الكورونا وعدم التفات الآخرين لنظافة أيديهم والاهتمام بعدم نقل العدوى.
مواقف أخرى قد لا ينتبه لها أحد، وهو أن تضع أنفك في شؤون الآخرين. فمثلًا جارة لديها طفل صغير يبكي بشكل دائم، وجارتها بالرغم من عدم وجود أي سابق معرفة بينهما تريد الذهاب إليها وأن تعرض عليها أن تأخذ ابنها لأنها من وجهة نظرها هي تحتاج النوم. وأم تمشي مع طفلها في الطريق وهو يعاندها ويصرخ وهي ممسكة بيده بقوة دون عنف خوفًا منها أن يفلت منها عند قطعها للشارع، فتركض خلفها أخرى لتملي عليها محاضرة في كيفية التعامل مع الطفل وأنه عليها أن تكون ألطف من ذلك، فتخبرها بأن ابنها من ذويي الهمم، وتخاف عليه من تصرف متهور يصدر منه، وانهمرت دموعها قهرًا وذهبت وابنها والأخرى ما زالت تريد الانتقاد دون رحمة أو شفقة.
وأخرى تعطي طفلك طعامًا دون علم منك برغم عدم وجود أي معرفة مسبقة، دون أن يخطر ببالها أنها قد تتسبب بمصيبة إن كان لدى هذا الطفل تحسس من هذا الطعام! أليس ذلك تعديًا على الخطوط الحمراء وتحرشًا استفزازيًّا ليس له سبب سوى حب التحرش بالآخرين وخلق شد وجذب معهم!
ذات مرة كانت أم أعرفها كانت مع رضيعها ذي السنتين في محل ملابس، فبدأ يبكي بشدة، فما كان منها إلا أن تركت المكان بسرعة خوفًا من ازعاج الآخرين في المكان لتبحث عن كرسي تجلس عليه وترضع طفلها، لتكتشف لاحقًا أن هناك امرأة لحقت بها من داخل المحل لتراها ماذا ستفعل، ثم جلست بالقرب منها وبدأت تخبرها بأن عليها التعامل بهدوء أكثر مع الموقف وأن طفلها جائع. وكأنها لا تعلم أن طفلها جائع. وسيدة أخرى في مركز اللقاحات كانت ممتعضة بشدة من بكاء طفل أخذ اللقاح لتوه حتى لم تعد تستطيع أن تمسك لسانها فقالت لها: ابنك جائع أرضعيه، لتخبرها الأم بأنه ممنوع عليها إرضاع طفل بعد اللقاح، فسكتت على مضض ثم غيرت مقعدها.
مواقف كثيرة ليست محصورة فقط بالنساء، بل للرجال النصيب الأكبر، فها هو البائع يحاول خلق حديث شخصي لا داعي له فقط تحت بند «التسويق»، ولا يستطيع هذا البائع الآخر إمساك لسانه عن التعليق على كل شيء، وهذا الآخر يحاول الخروج من بند التعامل الرسمي دون استئذان، وهذا الآخر يمد يده للسلام على امرأة رغم معرفته أنها قد لا تفضل السلام باليد أو أنها تمتنع عنه، فيخلق مشكلة في حال اعتذارها عن السلام باليد، ولو أنه اكتفى بقاعدة الإتيكيت الذهبية التي تقول: أنه ليس على الرجل مد يده للمصافحة إلا بعد مد المرأة ليدها إعلانًا عن قبولها لمبدأ المصافحة باليد، لكان الأمر سهلًا وبسيطًا على الجميع.
لكننا كشعوب ومجتمعات، على اختلاف أجناسنا، لا نحبذ الالتزام بقواعد بسيطة تمنع الأذى عن الآخرين وترفع الحرج عنا، بل نحب أن نفعل كل شيء دون إذن، بل إن طلب الاستئذان قد يبدو أمرًا غير أخلاقي لدى من يريدون اختراق الخطوط الحمراء في التعاملات. وبدلًا من تنظيم العلاقات والعيش ضمن جماعات محبة لبعضها، يعيش الكثير منا تحت ضغوطات يومية لا تطاق توصل البعض لمرفأ الاكتئاب المرضي أو الانتحار.
دعونا نرفع شعار.. #لا_للتحرش_المجتمعي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست