كذبوا علينا طويلًا وجاء العزل ليكشف لنا البهتان.

أنا الذي استيقظت على الصباح الباكر بزمان العزل، وتوقيت التشابه في الساعات والأيام. كان ضروريًا أن أغير لباس نومي، عفوا فقد كان من الضرورة جدًا استبدالها؛ لأن حلمًا عبث بمضجعي. وأفقت بسروال مبلل بالماء، أو أكون واضح القصد والعبارة فلا حياء في الدين كما يقال. سيول منوية تزين بوسخها سروالي مكشوف اللون، نتيجة الاستحلام هكذا أفضل ربما في تقريب المشهد.

العائلة كلها هنا، في منزل مساحته بعرض 10 أمتار وطول 25 مترًا تقرييًا، كلهم بجانبي ينتظرون إلتحاق الجميع لوجبة الفطور، بماذا أجيب حينما يسألونني ما الذي لطخ سروالك؟ على الأقل نحن عائلة محافظة، لا يمكنها وضعي موضع إحراج في مثل هذه الأمور، ولأن باب التأويل مفتوح على مصارعه، قد يفهمون أنني كنت أمارس العادة السرية ليلًا، أو ربما فعلت أشياء غير أخلاقية.

أما واقعة الحلم فيصعب عليا تفسيرها، ولا حتى إثباتها. نحن لسنا بعائلة مثقفة تفتح الحوار على أشد المواضيع حساسية في أجساد أبنائها. نحن عائلة ترى في الثقافة الجنسية مقدمة الزنا، أعرف مليًا وجليًا أن هذا حديث محرم، وإثارته يدخل من باب انتهاك قواعد الحشمة والوقار المتعارف عليها.

هذه الأيام التي وجدتنا جميعا في المنزل الواحد، الكل يتطلع إلى الكل والواحد منا يطمئن على الآخر فينا وهو يلمحه بالنظرات من أخمص القدمين إلى قعر الرأس كل صباح. شعور بالقرف والاشمئزاز، وأنا مجبر على تمثيل الغرق في النوم وعدم الحركة من المكان، ونفسي تتساءل:

لماذا يقع معي هذا في هذا الوقت بالضبط؟ لماذا الغريزة تفضحني كلما حاولت إخفاءها؟

وقت قليل قبل أن أفهم أن المنزل الذي نعيش فيه هو السبب فيما يجري معي. هو مكان غير صالح للعزل، ولا تتوفر فيه شروط ما تنص عليه منظمة الصحة العالمية من ضوابط السلامة. ولا تنطبق عليه نصائح وزارة الصحة الوطنية فيما يتعلق بالحجر المنزلي. عدم الاقتراب من الأهل أو فصل الأسرة عن بعضها البعض، احترام مسافة الأمان داخل البيوت. اكتشفت أن المنزل لا تتوفر فيه مقومات الكرامة الإنسانية، ولا يمنحنا حق العزلة ما بال العزل. كم اكتشفت في عزلنا أننا حقوقنا مسلوبة، وأن شعار الكرامة لكل مواطن هي أحلام دستورية، لا تقبل التنزيل على أرض الواقع. هي شعارات الحملات الانتخابية الحزبية والإشهارية وبرامج جامدة في خزائن الوزارات وخطابات كاذبة على لسان نواب أمتنا. وأننا ننام في بيت واحد ولا حق لأخواتي في الاختلاء بأجسادهن، ولا الاستمتاع بنومهن، ننام نوم معلبات السردين، اناث العائلة على اليسار بجانبهن الذكور على اليمين. والحدود الفاصل بيننا هو الأغطية. كل مجموعة لها أغطيتها الخاصة بها تتقاسمها وتتدافع من وسطها. والمهم دائمًا احترام قواعد الحشمة والحياء وممنوع على أححد التنصص أو التجرد والتعري من لباسه لأن فضاء النوم مشترك ومختلط. وهو نفسه مكان للاكل ويحدث أن يتحول إلى صالة لاستقبال الزوار.

ماذا أفعل حيال الأمر هل أستيقظ بسرعة، وأتخطى هذا وذاك هروبا إلى الخارج، كي أغير لباسي. ولكن كيف ذلك والخروج من المنزل ممنوع ماذا لو فعلتها والجيران يتطلعون إلى عورتي من النوافذ المفتوحة، قد أمنحهم مشهدًا كوميديًا ساخرًا. ها أنا أعرف أن العزل اختبار لحياة الحيوانات وأن المجتمع الذي يوجد القوانين الاستعجالية الملائمة لتجاوز فترة الوباء، كان عاجزًا قبل هذا عن تخليص حياة شريحة عريضة من أفراده من عيشة الغاب، اكتشفت أن الدولة فرضت علينا نحن الفقراء المزاوجة بين تناقضات، تناقض هوية الإنسان وما تقتضيه من احترام القوانين والتمسك بالمواطنة وتشبع بالأخلاق والقيم والسمو وواقع حيواني يحاسرنا من كل الجهات ويجردنا من أبسط مقومات الكرامة والوجود الإنساني.

إن هذا الحجر بقدر ما هو حماية للجسد من العدوى ونقل العدوى بقدر ما حصر الفقراء مع واقعهم الإجتماعي المرعب والمفزع، وحقيقته التي ظهرت واضحة خلال فترة العزل حيث التناسي واللامبالاة تجاه هذا الواقع غير ممكن، كونه يمارس الحصار عليهم ويفرض عليهم تقبله قصرًا مرغمين ويضعهم أمام مواجهته بالقدر الكافي من التأقلم والصبر والامتثال للقانون قانون العزل، قانون لم يكن وليد لحظة ظروف كهذه، ولكن عن العزل القديم بين الطبقات أتحدث.

هذا العزل الذي فرق السبل بين مواطنين متساويين في جنسية البلد الواحد، ومختلفتين عن بعضهم البعض في طرائق العيش. بين من يملك ومن لا يملك بين من يقاتل من أجل البقاء على قيد الحياة ومن يتخلص من أكوام الطعام في حاوية القمامة.

بين من يمتلك حمامات بجميع الانواع في منزله الواسع ومن لا يمتلك مرحاض يقضي فيه حاجته، بين من يحوز مساحات وبنايات ومن يسكن الحجور والمغارات.

في هذا العزل لن يطرح الفقراء أسئلة وجودية عن المرض والوحدة والموت وتشكيلة عالم ما بعد كورونا.. ولن يستغل الفقراء الوقت لممارسة الهوايات، فهوايات الفقراء قد تسقط السقف أو تهدم المنزل.

إن هذا العزل يحاكم واقعنا في مشهد مؤلم، عنوانه الهدر الإنساني والاستغلال الذي جعل الفقراء أكثر فقرًا، وأسكنهم في زنازن لا تتسع لأعضائهم، فكيف تسع أحلامهم وتخفف التداعيات النفسية لهذه الفترة. وهم الذين قضوا حياتهم هاربين في المقاهي وبالمشي في الشوارع يمارسون مهنة التناسي وتعويض ضيق المكان في المقاهي وبين الشوارع وخارج البيوت يكتشفون اليوم أن مساكنهم ليست فضاءات تحتويهم وأن العائلة الممتدة والمسكن المشترك مبرر يغطي فشل الدولة في تحقيق الكرامة الإنسانية للأفراد. ويقين تجربة العزل تكشف لهم أن الحياة المعاشة رديئة الجودة والمعنى.

أمام قانون العزل فنحن متساوون وفي شروطه نعلم من نكون.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

العزل
عرض التعليقات
تحميل المزيد