من الناحية العامة يمكن اعتبار أن التحالف الدولي الأخير ضد تنظيم الدولة الإسلامية هو أكبر تحالف دولي حصل في تاريخ البشرية، فلا يخبرنا التاريخ القديم والحديث ولا حتى المعاصر عن تحالف قوى كبرى ومتوسطة وصغرى بهذا الشكل الملفت للنظر أو اتفاقهم على قضية عامة لكي يحاربوها بهذه الطريقة الجماعية، بيد أن ما يهمنا من هذا الحجم الذي يعد هائلًا في تاريخ العلاقات الدولية – وحتى تاريخ الإمبراطوريات والكيانات الفعالة الأخرى قبل وجود الدولة – هو حجم الفواعل المؤثرين فعلاً في هذا التحالف وأدوارهم المتحركة، فرغم كثرة عدد الدول المنضوية تحت هذا التحالف إلا أن القدرة على التأثير نسبية ومحصورة لبعض القوى التي تمتلك مساحات شاسعة للتغيير في المعادلات الإستراتيجية الدولية والإقليمية، وهذا الكم الهائل من الدول يمكن تبويبه عبر التفعيل الأمريكي للشراكة الدولية العالمية للآخرين، فلم تعد الولايات المتحدة ترغب في أن تفعل كل شيء بنفسها لغرض أن تحصل الدول الأخرى على مكاسب دون أي مجهود.

 

التحالف الدولي: الولايات المتحدة تقسيم العامل وتوزيع الأدوار
بشكل عام فإن التحالفات الدولية تكون ذات طبيعتين: النوع الأول وهي التحالفات الدائمة مثل قيام حلف شمال الأطلسي من ثم تحويله إلى منظمة عسكرية تعمل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى الآن بمختلف الأراضي وحتى بمختلف الأهداف التي أنشئ على أساسها. النوع الثاني من التحالفات وهي المؤقتة والتي تسمى بتحالف الراغبين التي تنفض مع انقضاء الغرض وتحقيق الهدف الذي وجدت لأجله، كما حدث في حرب العراق عام 2003 من تحالف دولي لاحتلال العراق من ثم تقسيم المصالح والمكتسبات بين أغلب المتحالفين.

 

بيد أن التحالف الدولي الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتاريخ 19 سبتمبر 2014 لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية لا يمكن تصنيفه على أنه تحالف سيستمر لمدة طويلة رغم أن أغلب المحللين الإستراتيجيين يرون أن المعركة ستكون طويلة مع تنظيم الدولة الإسلامية وهذا لا يعني استمراره أو أبديته بقدر ما يكون وجوده تكتيكيًا مرحليًا لتحقيق أهداف أهمها ضبط شذوذ الفواعل على الأرض. لذا هذا التحالف هو من النوع المرحلي المؤقت؛ ذلك بسبب رغبة الولايات المتحدة لتضبط البيئة الشرق أوسطية عبر آليات تقسيم العمل وتوزيع الأدوار واستحداث وظائف جديدة عبر اختبار فواعل من الدول وغير الدول في هذه المنطقة.

 

ضبط إيقاع التوازن جيوإقليميًا
تتمركز طموحات وأهداف هذا التحالف حول أنها مرحلية وقريبة تتعلق بقضية ضبط الإيقاع الإقليمي، وضرب كل طرف يخرج عن النص وما هو مرسوم له من مهام ووظائف يجب عليه أن يقوم بها، سواء أكان يعلم أو لا يعلم هذا الطرف ماذا يفعل وتبعية أفعاله لمن. بمعنى أن هدف التحالف هو إيقاف شذوذ أي طرف يحاول الخروج عن المخطط المرسوم سلفًا. كما يمكننا أن نقول أن من أهم أهداف هذا التحالف هو استكمال مرحلة متقدمة تتعلق بإعادة ترتيب المنطقة العربية عبر استكمال فكرة إسقاط أنصاف الدول – التي تم تطبيقها قبل إنشاء هذا التحالف مع سقوط أجزاء من سوريا نهاية 2012- وتركها في حالة حرجة، جزء تابع للدولة التي تم السيطرة على أراضيها و جزء آخر تابع للمسلحين المسيطرين على هذه الأراضي مما يعني إعادة تشكيل الجغرافية العربية وتحريك قدسيات الحدود وإعادة رسمها من جديد وفق فرضيات سايكس بيكو بأساليب معدلة وبطرائق مختلفة.

 

ربط التحالف الدولي بهذه القضية الأخيرة (إعادة تشكيل المنطقة) يمكن من خلاله أن يُفهم أن هذا التحالف قد تدخل عسكريًا وبصورة كبيرة في كثير من الأحيان لمنع ما يشذ من بعض الأطراف التي تقاتل على الأرض من المساس بمصالح الولايات المتحدة ومن معها من أطراف متحالفة، كما حدث في بغداد حينما وصل مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية إلى أطرافها وكما حدث مع أربيل حينما أصبح خطر التنظيم قريبًا جدا منها. من ناحية ثانية يمكن أن نتلمس هدفًا أخلاقيًا لهذا التحالف تحاول الدول المنضوية تحته أن تقدم للآخرين أنموذجًا جيدًا على أنها راعية للتسامح ولا تقبل أن يكون هناك شعوب مضطهدة تقمع وتقتل وتهجر، وهذا لغرض تجميل الصورة الأخلاقية لبعض الحكومات التي فقدت مكانتها القيمية لدى الشعوب لاسيما العربية منها.

 

اللاعبون الجدد والوظائف المستحدثة: العرب وتبادل الأدوار الجيوإقليمية
يمكن تقسيم المشاركة العربية في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية إلى عدة أقسام: أولها المشاركة لاختبار قابليات بعض الدول العربية من قبل الولايات المتحدة وقياس إمكانياتها على تحمل الوظائف، من ثم إمكانية تحويل هذه الوظائف إلى أدوار إقليمية جديدة يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تمنحها لها في المستقبل كما هو حال الإمارات العربية المتحدة ومشاركتها في كثير من الطلعات الجوية والغارات العسكرية في العراق وسوريا.

 

أما القسم الآخر من المشاركات العربية فيمكن توصيفه على أنه يدخل من ضمن التزامات هذه الدول مع الولايات المتحدة على محاربة الإرهاب بشكل علني أمام الرأي العام، بالرغم من وجود مؤشرات على بعض الدول العربية التي شاركت بالتحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية على أن هذه الدول لديها ارتباطات مع مجاميع مسلحة على أرض الواقع في سوريا والعراق. لذلك يمكن تقييم الدور العربي في هذا التحالف على أنه دور (تحصيل حاصل من الناحية العملياتية العسكرية) وأنه دور أخلاقي قيمي تحاول الولايات المتحدة عبره أن تقول للشعوب العربية والعالم الإسلامي أن هذه الحرب ليست ضد المسلمين بدليل مشاركة الدول الإسلامية لمحاربة التنظيم، وهذا بتقديري هو توظيف براغماتي لهذه الدول لأغراض إضفاء الطابع القيمي الأخلاقي على طبيعة هذا التحالف، وخوفًا من تصويره على أنه تحالف صليبي ضد المسلمين.

 

السعودية: عملقة الدور بدلالات استخباراتية
يمكن بحث الدور السعودي في محاربة تنظيم الدولة في العراق وسوريا من بوابة عمق مكانة هذا الدور في مدركات صانع القرار الأمريكي، إذ دائما ما كانت السعودية صاحبة وجود في أي تحالف يحدث في الخليج العربي أو الشرق الأوسط، و قد تكرر وجود السعودية لأكثر من مرة في مثل هكذا تحالفات عام 1991 وعام 2003، لكن أهمية الدور السعودي هذه المرة تكمن في الجانب المعلوماتي الاستخباراتي أكثر من كونه دورًا عملياتيًا عسكريًا – رغم الاشتراك العسكري عبر قواتها أو عبر القواعد الأمريكية على أرضها والتي تسهل عمليات التحالف كثيرًا – ذلك عبر ما لديها من سعوديين وأعداد كبيرة تقاتل إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.

 

هذه الأعداد لدى بعضها ارتباطات وثيقة ومباشرة بالمخابرات السعودية وحتى الأمريكية مِن مَن لم يكتشفهم التنظيم إلى الآن، وهم مزروعون كخلايا تجسسية داخل التنظيم. لذا يمكن القول أن الدور السعودي هذه المرة هو دور معلوماتي استخباراتي أكثر من كونه دورًا عسكريًا عملياتيًا يتعلق بالقوات السعودية. من جانب آخر يمكن حساب قضية الدعم الإستراتيجي للتحالف الدولي عبر ما توفره السعودية لقوى التحالف على أرضها عبر قواعدها الموجودة في السعودية، ومن خلال القوات التي تعمل على إدارة المعركة عن بعد من هذه الأراضي.

 

قطر: من قمة القطبية الإقليمية إلى أنموذج الدولة العميقة جيوإقليميًا
من حيث المبدأ: من غير المناسب أن تكون قطر في هذا التحالف لأسباب متعددة، أهمها وجود تحول ملحوظ في مكانة قطر بالنسبة للإدراك الأمريكي للمنطقة. قطر وبعد عام 2003 كان لها أدوار مميزة في محيطها الإقليمي سواء في أفريقيا أو آسيا، فضلاً عن الدور الكبير في منطقة الخليج العربي. هذه الأدوار نابعة من حجم الصلاحيات الأمريكية التي منحتها الولايات المتحدة لهذه الدولة.

 

حدث التحول الأمريكي تجاه قطر بعد إدراك السعودية أن قطر استفحلت كثيرًا في المنطقة وصار لديها دور واسع يمكن القول عنه أنه تجاوز الدور السعودي، لذلك كان أمام الولايات المتحدة خيارات محدودة أمام إشراك قطر في هذا التحالف الدولي، إما التفريط بالسعودية (الحليف العميق تاريخيًا وإستراتيجيًا) والذي سيضيف مكانة إسلامية على التحالف الدولي، أو التفريط بقطر (مرحليًا وإعلاميًا) لأغراض ترضي السعودية وتجعلها تقوم بما يطلب منها أمريكيًا بشرط تقليل الدور القطري، لذلك حجمت الولايات المتحدة الدورَ القطري هنا علنيًا وأبقت لديها أدوارًا خفية وراء الستار تقوم بها في سوريا والعراق وحتى المحيط الإقليمي العربي وغير العربي.

 

هذا التحول جعل من الإمارات كدولة إسلامية ليس لديها مؤشرات سابقة، مرشحاً قوياً لتكون مكان قطر في الوقت الراهن، لكن باعتقادي أن قطر تحولت فعلاً من الدولة الفاعلة علنيًا إلى الدولة العميقة الفاعلة في الخفاء، وهي تتبع الأنموذج التركي بتوصيات أمريكية من حيث عدم قدرة قياس ورؤية هذا الدور بدلالات الدولة التي تمتلك تأثيرًا لا يمكن مشاهدته.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد